الحرب تُودي بـ 1,7 مليون تلميذٍ خارج المدارس السورية!
Share
بادية الونوس
لم تمح السنوات، تلك الصورة من ذهن “لين”، يوم كانت والدتها تسرّح لها شعرها وتزينه لتستعد للذهاب إلى المدرسة. كانت آنذاك في الصف الخامس الابتدائي، ولها أحلامها، لكن بسبب الحرب والتهجير من منطقة إلى أخرى، تركت مدرستها ليستقر بها المقام في ريف دمشق. هكذا فقدت “لين” نصف عائلتها، وما تبقى من أخوتها يعملون بمختلف جبهات العمل لتأمين لقمة عيشهم. لكن قلبها انكسر للأبد مع موت أحلامها بمتابعة دراستها. لتستيقظ على صوت صاحب المعمل مطالبًا بسرعة تنفيذ المطلوب منها.
بسبب حرب طاحنة لسنوات طوال على السوريين، هناك أجيال تقدّر بحوالي مليوني طفل خارج الصفوف الدراسية، خاصة في المناطق التي تعرضت للضرب والتدمير وشُرّدوا أهلها، كالمناطق الشمالية الشرقية في محافظة الحسكة، تلك البقعة التي انتهت بوقوع جزء منها تحت سيطرة ما يسمى بالقوات الديمقراطية الكردية أو (قسد). ناهيك عن الاحتلال الأمريكي والتركي لأجزاء أخرى. لتسليط الضوء على ظاهرة التسرب المدرسي بعد حرب سنوات طوال، فتحت مجلة (الفينيق) الإلكترونية هذا الموضوع، خاصة في محافظة الحسكة التي كان لها النصيب الأكبر من الضرب والتنكيل من سيطرة قسد من جهة والاحتلال التركي والأمريكي من جهة ثانية.
معاناة يومية
يقطع “حسين” يوميًا مسافة طويلة من بلدته عامودا إلى المدرسة التي تقع تحت سيطرة الجيش السوري. بقي حسين متمسكًا بحلمه إلى آخر رمق، يقول: نذهب إلى مدارسنا بالرغم من مفاجآت الطريق، كأننا نرتدي الموت مع مطلع كل فجر. أدركنا أن الدراسة في المدارس التي تسيطر عليها (قسدّ) لن تجدينا نفعًا، خاصة بعد فرض اللغة والمناهج الكردية التي هي لغتنا الأم أساسًا، قرّر والدي الهروب بنا تحت وطأة الظروف الصعبة، ودفع الأتاوات على الطرقات لأشخاص يستطيعون إيصالنا إلى مناطق تسيطر عليها الدولة السورية للدراسة في مدارسها. بينما همس لنا زميله قائلاً: حتى القيادات الكردية التي تمنع الدراسة في المدارس الحكومية، يدرسون أبناءهم في هذه المدارس التي يسيطر عليها الجيش السوري.
فرض اللغة الكردية
هناك فقط يمكنهم ضمان مستقبلهم. تضيف “أم ديرباس”، وهي أم لأربعة أولاد تقول: “نحن من منطقة تلحميس على الحدود الشمالية الشرقية للحسكة، تفصلنا مسافة قصيرة عن الطرف الآخر الذي يسيطر عليه الجيش السوري. تم فرض المناهج الكردية وحذف مادة التاريخ والجغرافية وكذلك القومية وفرض التدريس باللغة الكردية، لكن هذا لن يفيد أبناءنا في متابعة مستقبلهم الدراسي. سيأتي يوم تحطّ الحرب رحالها، ومستقبلنا لن يكون إلا في المناطق التي تقع تحت سيطرة الدولة السورية.”
دسّ السم
“أم جوان” تقول: “اللغة الكردية لا تصلح لتعليم أبنائنا في مدارس التعليم العام، لذلك غادرت بلدتي باتجاه محافظة الحسكة رغم الظروف المعيشية الصعبة بهدف تأمين المستوى المقبول من التعليم والتربية لأبنائي في المناطق التعليمية التي تسيطر عليها الدولة السورية. المدارس التي تخضع لسيطرة (قسدّ) تدرّس المناهج باللغة الكردية، وهناك مناهج دخيلة، خصوصًا في مقررات التاريخ والجغرافيا، حيث يتم تسويق مفاهيم غريبة مثل تشوه الخريطة الجغرافية للجمهورية السورية، أو تمرير معلومات مغلوطة حول حق الكيان الصهيوني في فلسطين، أو أن إسرائيل ليست عدوًّا، وأن السوريين شيء والأكراد شيء آخر، هذه الأمور نحن كسوريين نرفضها بالمطلق.”
عدة أسباب للتسرب
وفق مسح أجرته وزارة التربية عام 2018 فإن مجموع الأطفال خارج التعليم حتى سن ال 17 عامًا يقدر بنحو 1,7 مليون وسبعمائة ألف طفل. هذا ما أكده لنا الدكتور رامي الضللي، مدير التعليم الأساسي في وزارة التربية الذي قال: “إن التسرب تركز في المحافظات الشمالية الشرقية ومنها محافظة الحسكة، إضافة إلى شريحة كبيرة من الذين تسربوا بسبب عوامل متعددة منها:
– اضطرار الأهالي لتغيير أماكن سكنهم عدة مرات بسبب ظروف الحرب.
– زيادة عدد التلاميذ المكتومين.
– الآثار النفسية على الأطفال وذويهم بسبب الحرب والتهجير.
– الوضع المعيشي القاهر لبعض الأسر وإجبار عدد كبير منهم على ترك مدارسهم والالتحاق بالعمل لمساعدة ذويهم.
– الأعمال الإرهابية التي دمرت عددًا كبيرًا من المدارس.”
دورات تمديد
لتعويض الفاقد التعليمي بعد انتهاء العمليات العسكرية يؤكد الضللي أنه “تم افتتاح دورات تمديد العام الدراسي في المحافظات الشرقية لتكون هذه الدورات رافدًا في سد الثغرات نتيجة توقف العملية التربوية، إضافة لإصدار وثيقة خاصة بتقدير الأعمار لمن لا يمتلكون وثائق شخصية شرط وجود وصايا قانونية على التلميذ. إضافة إلى العديد من الخطوات التي تشجع العودة للمدارس كتوزيع الحقائب المدرسية وتشجيع المعلمين للتدريس في المناطق البعيدة.”
92 مدرسة منزلية
نالت محافظة الحسكة النصيب الأكبر من الحرب الطاحنة. لأن جزءًا من مناطقها يقع تحت سيطرة ما يسمى بالقوات الديمقراطية الكردية (قسد)، ناهيك عن الاحتلال الأمريكي والتركي. كما أنها من المناطق التي تعرضت لشتى أنواع التهجير والتخريب خاصة في القطاع التعليمي. في هذا الصدد تؤكد مديرة التربية في محافظة الحسكة الهام جبرائل الصورخان، التحاق عدد كبير من التلاميذ بالمدارس الحكومية التي تدرّس منهاج وزارة التربية، في المناطق التي تسيطر عليها (قسد). فرغم الأعباء المادية التي يتكبدونها بسبب بُعد سكنهم عن المدارس الملتحقين بها، مازال عدد التلاميذ في ازدياد.
تقول الصورخان: “تم افتتاح تجمعات خاصة بتلاميذ الفئة (ب) من الذين لم تُتح لهم فرصة التعليم بسبب الظروف التي مرت بها مناطقهم، ويبلغ عددهم 6420 طالبًا. كما أن مديرية التربية تقوم بتنفيذ التعلم الذاتي بالتشاركية مع منظمة اليونسيف، وتتم هذه العملية بإشراف مديرية التربية في المحافظة التي تخضع الطلاب لاختبارات فصلية.”
افتتاح 244 مدرسة
أشارت الصورخان إلى أن عدد المدارس المفتتحة في محافظة الحسكة وصل إلى 244 مدرسة إضافة إلى 92 مدرسة منزلية موزعة على المناطق الواقع خارج سيطرة الجيش العربي السوري. وأضافت: “لا يوجد نقص في الكادر التدريسي حاليًا، لأن ملاك المدارس المغلقة تم نقلهم مؤقتًا إلى المدارس المفتتحة.”
للحد من هذه الظاهرة
منذ بدء الحرب، قامت وزارة التربية كجهة معنية باتخاذ الاجراءات للحدّ والتخفيف من هذه الظاهرة وزيادة القدرة على استيعاب التلاميذ. يشير مدير التعليم الأساسي في وزارة التربية الدكتور الضللي إلى أهم تلك الإجراءات:
-
تيسير إجراءات تسجيل التلاميذ العائدين من التسرب في أقرب مدرسة لمكان سكنهم.
-
تفعيل دور المرشدين الاجتماعيين والنفسيين في جميع المدارس لمعالجة الآثار النفسية التي خلفتها الحرب.
-
المواكبة الإعلامية ضمن حملات عديدة بالاستفادة من اللوحات الطرقية والإعلانات التلفزيونية للتشجيع للعودة للمدارس.
-
تنفيذ دورات المكملين دراسيًا بالتعاون مع المنظمات الدولية حيث يستطيع الطالب تعديل نتيجته للصف الأعلى.
-
السماح للطلاب الذين لا يمتلكون أي وثائق ثبوتية مدرسية بموجب سبر معلومات ووضعهم في الصف المناسب وفق فئتهم العمرية.
-
اتباع الأساليب التربوية الحديثة واعتماد التعلم النشط والابتعاد عن الأساليب التقليدية.
غرامات مالية
يشير الضللي إلى إلزام القانون رقم 7 لعام 2013 لجميع الأولياء ومن في حكمهم، بإلحاق أطفالهم الذين تتراوح أعمارهم ما بين 5-15 سنة بمدارس التعليم الأساسي، وحدد القانون الاجراءات القانونية الضابطة لتنفيذ الإلزام وفرض العقوبات الرادعة، التي قد تصل لغرامات مالية كبيرة والمضاعفة في حال التكرار.
نتيجة ظروف قاهرة
يعرف الباحث الاجتماعي الدكتور حسام سليمان الشحاذة، التسرب المدرسي، بأنه حجم الفاقد من المتعلمين بسبب الرسوب وترك المدارس. يقول: “قد يحدث التسرب بسبب انخفاض كفاءة وأداء المؤسسات التربوية وهدر الجهد والوقت وعدم توافقه مع خطط العملية التربوية، وهذا نتيجة حتمية لضعف النظام التربوي وعجزه عن تحقيق المواءمة بين المدخلات والمخرجات لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية. لكن أهم أسباب التسرب هو الحروب وما تتركه من تدمير في البنى التحتية، ناهيك عن التهجير للأسر من منطقة إلى أخرى إضافة إلى الظروف المعيشية الخانقة التي يحياها معظم السوريين، الأمر الذي يدفع بالبعض إلى زج أبنائهم في مهن لا تتناسب مع أعمارهم، وهذا لوحده يعدّ سببًا قاهرًا للتهرب من المدارس.”
فاقد للموارد البشرية والمالية
من المؤكد أن ظاهرة التسرب المدرسي تنطوي على تبعات خطيرة يلخصها الشحاذة بالقول: “إنها تتسبب بفقدانٍ لا يستهان به للموارد المالية والبشرية، فالتسرب يعني انتشار الأمية والجهل الذي يسهّل الوقوع في مستنقع الفساد والجريمة والمخدرات، خاصة في الدول التي تعاني في الأساس من عدم الاستقرار الأمني”.
الاستفادة من التجارب
للحدّ من تبعات هذه الظاهرة ضمن الإمكانات المتاحة يقول الباحث الشحاذة: “لا بد من تشخيص الأسباب أولاً ومعالجتها. ففي لبنان الذي مر بظروف مشابهة، كان لدور المرشدين الاجتماعيين والنفسيين الدور الأهم في الحدّ من هذه الظاهرة، حيث تم تخفيض نسبة التسرب من 67% إلى 7% وذلك بالتزامن مع تحرك الجهات المعنية، لإيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية للأسر المهجّرة من خلال تأمين السكن الصحي ونشر الوعي والثقافة بين الأهالي من أجل عدم زجّ أبنائهم في مهن لا تناسب طفولتهم.”
معركة طويلة مع التسرّب
استهدفت الحرب التي تشنّ على سوريا، القطاع التربوي الذي يعتبر أخطر من بقية القطاعات، نظرًا لارتباطه بتنشئة الجيل على القيم والمعارف الوطنية من ناحية، ومن جهة ثانية، فهو القطاع المعني بتهيئة الكوادر الأكاديمية من جميع الاختصاصات كي يكونوا جزءًا هامًا في عمل المؤسسات. تلك الحرب حاولت النيل من الإنسان قبل كل شيء، لذلك حرصت الميليشيات على تدمير المدارس واتخاذها مقرات لها، وشددت الحصار لزيادة حجم التسرب من التعليم بهدف تشغيل الأطفال كمرتزقة. في هذا المشهد، تبدو مسؤوليات وزارة التربية السورية كبيرة في استعادة المتسرّبين واستيعابهم وإعادة تأهيلهم. إنها حرب معرفية وأخلاقية تجري بالتوازي مع الحرب العسكرية!