هجرة الشباب وانقلاب سلّم المفاهيم والقيم

Share

أرقام خيالية حققتها الشام ولبنان والعراق في أعداد اللاجئين والمغتربين الموزعين في دول العالم. العائلات ترسل أحد أطفالها في طريق الهجرة أملاً في لمّ الشمل.. النساء يحلمن عبر بوابات الفيس بوك بعلاقات مع شباب يحملون الجنسيات الأجنبية من أجل الزواج والسفر. متابعو صفحات الهجرة على وسائل التواصل الاجتماعي بمئات الآلاف. المهربون وخبراء الطرق غير الشرعية أصبحوا من الأثرياء. الجيران باعوا منزلهم كي يؤمنوا تكاليف الهجرة لابنهم الذي أصيب بمرض نفسي بسبب ضغوطات الواقع. الهجرة واللجوء بالنسبة إليهم خلاص وحياة جديدة حتى لو جلسوا في “الكامبات” طويلاً وعانوا من العنصرية وصعوبات تعلم اللغة والعادات الجديدة. إنهم قادمون من البلدان الأقل دخلاً في العالم. بلدان يدمرها الفساد والفقر والتشرذم، لذلك ستبدو مقولات الوطن مضحكة بالنسبة إليهم، أولئك الخريجون الجامعيون الذين لا يحصلون على فرص عمل ولا يستطيعون تأمين منزل أو حياة كريمة، السفر يرونه حلاً وسيقولون لك: بدنا نعيش!

سواء كان الأمر مؤامرة أو نتيجة طبيعية لتراكمات طويلة من الكوارث المحلية، فإن الحديث عن الشعور الوطني يثير الضحك لدى شباب يعتقدون أن البقاء في هذه البلدان انتحار طوعي. في هذا التحقيق، نحاور الشباب والأهالي عن تبدل المفاهيم ومعيار الأخلاق والانتماء والتمسك بالجذور.

يضحك أحمد على والده وهو يحدثه عن تمسكه ببلدته الصغيرة، حيث ترعرع وصنع ذكرياته وبنى حياته.. يقول: “أنا لا أشعر بأي رابط مع كل هذا، إن الأوطان هي الأمكنة التي توفر لك أكبر قدر من الكرامة والمستقبل المشرق” أحمد العشرينيّ ارتبط بامرأة أربعينية تحت ستار الحب والزواج كي يحصل على فرصة للنجاة مما يسميه “المحرقة” وهو يقول بكل ثقة: “إذا أرسلت إلى أهلي مئة دولار كل شهر من بلاد الهجرة واللجوء، أليس أفضل من الشعارات التي لا تطعم خبزاً؟ هذا المبلغ هو الذي يحفظ كرامتهم وليس الوطن.”

الكلام قاسٍ وصعب، لكن الواقع مرير. والد أحمد يقبض دولارين شهرياً كراتب تقاعدي من إحدى النقابات بعد خدمة تجاوزت ثلاثين عاماً! ولولا المئة دولار التي يرسلها ابنه “اللاجىء” لكان في عداد الأموات داخل بلدته النائية التي لا يصلها الماء والكهرباء وتفتقد لأدنى مقومات العيش!

الواقع الصعب، بدّل المقاييس الأخلاقية والعادات، فالعائلات لم تعد تمانع في تعرّف بناتهم إلى شباب يعيشون في الخارج يمكن أن يكونوا القشة التي تنقذ الغريق، بل إن بعض الأمهات يطلبن من بناتهم البحث عن أولئك الشباب عبر الانترنت و”تطبيقهم” من أجل الزواج والحصول على فرصة العمر. المسؤولون الذين يتغنون بالوطن والصمود، لا يرسلون أبناءهم إلى الحروب، بل إلى هامبورغ وبون وباريس. الوطن للفقراء والمضحّين وأصحاب المبادئ التي لا تطعم خبزاً، كما يقول أحمد.

تبني “سمر” آمالها على لحظة التخرج من كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية. وتحفظ جميع الصفحات والمواقع التي تعلن عن البعثات المجانية لدراسة الماجستير، تقول: “سأسجل في جميع بعثات العالم، ليس حباً بنهل العلم بل بالهروب والنجاة.. من حقنا العيش مثل البشر.”

لعبت الانتكاسات المتكررة دورها في قناعات الشباب، فهذا الجيل يعرف جيداً طريقه ويحاورك في تجارب الآخرين كما يسرد عليك ما فعله المتغنون بالوطن من فساد، كما يذكّرك بحال أولئك الذين طرحوا أنفسهم كمخلصين للناس، وكانوا متورطين بالخراب. تتحدث سمر عن تجارب الأحزاب والجمعيات والمؤسسات التي تُعنى بالشأن العام، وتضعك أمام مواجهة صعبة عندما تسرد أسماء الفاسدين في تلك المؤسسات التي كان يعول عليها في الدفاع ولو عن بعض الأمل.

تتفيه الرموز وتفريغ المصطلحات من معانيها وتحويل الأخلاق إلى “شتيمة” هو أخطر ما حصل خلال العقود الماضية. فالأبناء ينظرون إلى آبائهم كمنفصلين عن الواقع عندما يتحدثون بالقيم والانتماء. هكذا أساءت الممارسات الخاطئة إلى جميع المفاهيم، وأصبح لدى جيل الشباب “مستمسكات” كثيرة من الأسماء عن مسؤولين غدروا بالقيم من أجل الاسترزاق، فكيف ستكون المواجهة مع ذلك النشء الذي إن بقي متمسكاً بوطنه، فإن مدخوله لن يتجاوز ثلاثين دولاراً في الشهر؟ كيف سنقنعه بأنه يمكن أن يعيش ليؤمن خمسة أضعاف هذا المبلغ، وهو الحد الأدنى للعيش ضمن مقاييس البشر؟

والد أحمد يقول إنه يعجز عن الرد على ابنه! فهذا الجيل قد ظلم كثيراً ولم يعد يكفيه التنظير والكلام. يقول: “أنا لا أستطيع أن أكون مثل أحمد، ولا أجرده من حق الاختلاف معي بالتفكير. نحن راحت علينا ولم يعد العمر يحتمل تبديل الخطط والقناعات، صحيح أنني كنت آمل أن يكون ابني مثلي في كل شيء، لكن الفشل التاريخي الذي لاحقنا جعل أولادنا يشقون عصا الطاعة على الرومنسيات التي مازلنا نتمسك بها حتى الآن.”

قصص الاغتراب ستحمل الكثير من التراجيديا خلال السنوات اللاحقة عبر الأدب والمرويات ومذكرات الأشخاص. هناك تبدل في المفاهيم سيتبلور أكثر مع الوقت، ويتناول قيماً وعادات كانت ثابتة حتى وقت طويل. “زينة” تزوجت عبر الفيس بوك، وعندما وصلت إلى ألمانيا تفاجأت بأن عريسها كان إنساناً مختلفاً عما ظهر عليه عبر الانترنت، عاداته وعصبيته وأسلوب تفكيره لم يكن محتملاً، وهذا الأمر لم يسبب لها أية معاناة، فهي تريد السفر وليس العريس، ولم تكن لتصاب بالصدمة عند طلاقها، بل أكملت طريقها في تأمين حياة مختلفة وجديدة. تقول: “لقد خبرت جميع الظروف وأقساها منذ صغري. الطلاق ليس عاراً أو مصيبة، بل حرية بالنسبة إلي، خاصة أن الإنسان الذي ارتبطت به لم يكن مناسباً. المهم أنني أصبحت في أوروبا والحياة أمامي بكامل سعادتها!”

يتبارى الأهالي اليوم في تسفير أبنائهم إلى الخارج. إنه مشروع يرضي المهاجر الباحث عن حياة جديدة، والمنتظر الذي يريد تحسين الدخل من خلال الأبناء. يقول والد أحمد: “لقمة الخبز والعيش الكريم غير كل القناعات.”

0
0