بعد أيام قليلة على نشر مقالنا “الهروب الكبير“، أعلنت إحدى مديريات الوطن، ذات التاريخ العريق في العطاء والتضحيات، عن قرارها “العمل ضمن متّحدها بشكل مستقل عن المؤسسة الحزبية على الصعيد الإداري، واتخاذ موقف المراقب، بانتظار خطوات إصلاحية مركزية.” لا نزعم أن لنا فضلا في قرار المديرية، ولكنه كان قرارًا متوقعًا. إنه قرار ينسجم مع أخلاق القوميين وردة فعلهم على “تراكم الممارسات والقرارات الخاطئة من قبل الإدارة الحزبية.. والمماطلة غير المبررة.. وعدم التجاوب وتأجيج الصراع المرتجى حله.. وبوصلة البعض التي تبقى مرهونة عند رضى أشخاص بغض النظر عن تداعيات أفعالهم.” كل الكلام بين مزدوجين مأخوذ من نص بيان المديرية الذي أعلن على الملأ.
ولم تكن هذه المديرية هي الأولى التي تتخذ موقفا كهذا، بل سبقها إليه على الأقل أربع مديريات بعضها أعلن موقفه علنًا، وبعضه الآخر اكتفى بإبلاغ الإدارة رسميًا عنه. ولا نستغرب استمرار هذا المسار من مديريات رأت بصيص أمل بعد انتخابات أيلول 2020، لتعود وتصطدم بالواقع الذي ذكَرَته في بيانها.
وفيما هذه المواقف تتوالى، نرى ظاهرتين أخريين، الأولى، ويمكن وصفها “بالسير بالطمّاشات”، أي رفض رؤية كل ما يحيط من أسباب موجبة لإعادة النظر بالوضع القائم والإصرار على “العمل من أجل العمل”. أما الظاهرة الثانية، فهي تكرار التجارب نفسها بالأشخاص أنفسهم وتوقع نتائج مختلفة.
السير بالطماشات ليس ظاهرة جديدة، والتعبير ليس لنا بل للأمين الراحل عبدالله قبرصي في وصفه لقبوله “الواقع اللبناني” الذي ضرب الحزب إبّان غياب سعاده في مغتربه القسري. إنه يقول في مذكراته: “إن القيادة الحزبية كانت آنذاك في طور التدرج، فإذا سلكت سبيلاً وضعت على عينيها طمّاشات وسارت باتجاه واحد.” (المذكرات الجزء الثاني، ص. 112). إن الطمّاشات على نوعين، نوعي مؤسسي، تضعه المؤسسة على عينيها فتعميها عن المسار الذي تسير به – سبب اعتكاف المديريات والرفقاء على السواء – فتكتفي بإصدار العقوبات، وترمي من اعتكف بشتى الأوصاف والنعوت. أما على الصعيد الفردي، فالوضع هو في نفس السوء. إن الذي يقول، “سوف أشيح ببصري عن كل ما أراه من مساوئ وأعمل للبناء فقط”، يتجاهل الخطر الجاثم على العمل والبناء نفسه. فالمأثور الشعبي واضح، “ألف معمرجي ما بيلحقوا على خاروبي”.
يمكن اختصار علّة ما يحصل اليوم في الحزب السوري القومي الاجتماعي بكلمة واحدة: الصفقات. إن ما جاء بقيادة أيلول 2020 هو صفقة بين مجموعة أشخاص اعتبروا ان صفقتهم مع قائدهم السابق لم تعد ذات جدوى، فقرروا التخلص منه. ولكن للصفقات قانونها الخاص. إنها تنطلق من مجموعة مصالح فردية تلتقي على حد أدنى من الأهداف، وتفترق فور تحقيق البعض هدفه أو فور اكتشاف بعض آخر أن الصفقة لن تحقق ما يصبو إليه. عندها، ينفرط العقد لتعود بعض حباته للانتظام في حلقة أخرى من المصالح وهكذا دواليك. وعلى جوانب هذه الصفقات هناك من يبحث لدور أو مكان له فيحاول الدخول في هذه أو تلك. وإذا تزامن زمن الصفقات مع زمن الانتخابات فحدث ولا حرج. أليس هذا ما يشهده هذا الحزب اليوم، صفقات داخل صفقات داخل صفقات، وهذا ما يَسِمُ المجموعات التي لم تزل تبحث عن حلول توفيقية تجمع حلفاء الأمس – أعداء اليوم في صفقة جديدة تكفل لهذه المجموعات مكانا لها بينهم.
وقضية الحزب؟ إنها ضائعة بين أصحاب الصفقات، وهذا يعيدنا إلى بيان المديرية المذكورة أعلاه إذ إنه يقدم فرصة ولكنه يشكل خطرًا. الخطر يكمن في أن يصبح “الاستقلال” غاية في حد ذاتها وليس وسيلة لفرض تغيير جذري في آلية انبثاق السلطة ما فتئنا ندعو إليه، وقد لخصناه في مقالنا السابق. عندها تضمحل المديرية، إذ تنعزل عن محيطها الأوسع، وتموت موتا بطيئًا.
أما الفرصة فهي أن تبادر المديريات التي أخذت مثل هذا الموقف لخلق آلية تنسيق بينها لتصبح كتلة جذب واستقطاب لمديريات ورفقاء آخرين، توصل إلى قيادة جديدة، تقطع قطعًا كاملاً مع عهود الفساد السابقة، وتقفل مدرسة الصفقات مرة وإلى الأبد.
2 Comments
[…] لا بد أن ننوّه أنه فيما كنا ندفع مقالنا السابق “مدرسة الصفقات” إلى النشر، وصلنا بيان من مديرية ثانية في الحزب […]
[…] القليلة علّق رفيق من قدامى مقاتلي الحزب على مقال، “مدرسة الصفقات“. لقد هاجر هذا الرفيق بعد الحرب التي دخلها مراهقا، […]