متعاطفون مع المسائل التافهة.. حياديون في القضايا المصيرية!

Share

الخطر المحدق بالمجتمعات العربية لا تدركه المؤسسات وقد تشارك فيه في بعض الأماكن. فالفرد العربي الذي لا يقرأ سوى ربع صفحة في العام، حسب تقارير الأمم المتحدة، لن يلتفت إلى القضايا المصيرية ولن تعنيه جماليات الذائقة أو أخلاقيات التربية، بل سيكون جزءاً من المشكلة دون أن يشعر وهو ما يجعل الكارثة أكبر. من الغريب فعلاً أن تتحول حفلة لمطربة المقاصف والبارات “ريم السواس” إلى قضية رأي عام، تنهمك فيها المؤسسات الفنية والناس من مختلف المستويات، لتصدر نقابة الفنانين قراراً بإلغاء الحفلة لأنها تسيء إلى الذوق الفني العام! في حين يتعرض هذا الذوق إلى اعتداءات هائلة في جميع الأماكن وعلى مستوى العناوين الأكثر أهمية ولا يتحرك أحد! فهل تكون القضية عبارة عن جرّ الناس إلى القضايا الهزيلة بعيداً عن القضايا الجوهرية؟ وما مدى مشاركة وسائل التواصل الاجتماعي في هذا المشروع الذي يبدو سائراً وفق خطا متسلسلة ومدروسة غير عبثية ولا تجري بالصدفة؟ هل كان إتاحة إدارة الفيس بوك للمشتركين النشر على الصفحات دون إذن أصحابها، خطأً برمجياً فعلاً، أم إنه من ضمن دراسة اختبارية خدمة لغايات معينة مرسومة سلفاً؟

المسائل الصغيرة، تستطيع جذب آلاف الناس، بينما القضايا المحورية تبقى بلا تعاطف! في حين تساهم وسائل التواصل الاجتماعي بدورها في حظر كلمات تتصل بفلسطين والمقاومة وغيرها من المفردات، بينما تسهل وتتغاضى عن مفردات أخرى. وذلك يتم بالطبع وفق خوارزمية تكنولوجية لم يتم وضعها صدفة، بل هي تخدم أهدافًا معينة في النهاية.

بالعودة إلى “قضية” منع نقابة الفنانين لحفلة ريم السواس، فقد ردّت هذه “الفنانة” بفيديو غنائي قصير عبارة عن “شتائم” تحول إلى “تريند” يتداول بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي ويتفاعل بين مؤيد ومعارض. فيما تجري الكثير من الأحداث الهامة ولا ينتبه إليها أحد!

المسألة ليست انسياقًا وراء نظرية المؤامرة، لكن ما يحدث على الأرض هو ولادة المجتمع الإلكتروني غير المنتمي والمسيّر بخوارزميات تسوّق التفاهة وتدافع عنها، لذلك يمكن القول إن الرأي العام بات يصنع بكبسة زرّ من كونترول مجهول يتحكم بمواقع التواصل الاجتماعي ويقرر بماذا تنشغل الناس في هذه المرحلة وكيف يمكن صياغة اهتماماتها وتفكيرها.

للأسف تتورط المؤسسات المحلية والأفراد في نجاح هذه اللعبة من حيث لا تدري، وذلك بسبب جدتها في التعامل مع هذه الوسائط وعدم معرفة استخدامها بالشكل الأمثل. فالمستهلكون غالباً ما يكونوا أقل خبرة من المنتجين لأنهم لا يملكون مفاتيح التكنولوجيا بشكل كامل بل هم مجرد مستخدمين. الأمر الملفت للنظر هو ظهور الكثير مما نتحدث عنه عبر أفلام السينما والروايات العالمية، وهو أمر لا يبدو مفهوماً بالنسبة لكثيرين أيضاً، ففي رواية “الحصن الرقمي” للأميركي براون، تظهر تفاصيل تكنولوجية عن السرية والتحكم بالسيرفرات العالمية في وقت مبكر قبل أن ينتشر هذا الموضوع عالمياً على سبيل المثال لا الحصر.

لا يمكن نكران الجوانب الاقتصادية المتشعبة في التكنولوجيا، مثل شراء علامات الإعجاب ونشر الإعلانات وهوس الناس بالحصول على مردود شهري مرتفع مقابل عدد المشتركين والمعجبين. هذه التفاصيل تعتبر جزء من سلة واحدة تعمل بتناغم وانسجام من أجل هدف واحد هو تسطيح الاهتمامات وصياغة المواقف والتحكم بها من دون تكاليف أو حروب أو صراعات طويلة الأمد، إنها الحرب الناعمة التي يمكن أن عبر فيديو مثير أو فضيحة مصورة تحرض الجماهير المنقادة لمواقع التواصل وتدفعها لاتخاذ المواقف.

في الحرب الأخيرة على غزة، لم تحصد مشاهد الدمار والمجازر من الاعجابات ما تحصده فيديوهات الفضائح التافهة الخاصة بطلاق وزواج النجوم! بل إن إدارة الفيس بوك يمكنها تبني المنشورات التي تناسبها وتعمل على تسويقها بشكل سريع وتهديها الاعجابات لأن سياسة الكونترول المتحكم تتطلب ذلك، والكل يعرف أن استخدام كلمة فلسطين عليه قيود مثلما هي كلمات المقاومة وغير ذلك. إنهم يهدفون إلى خلق مجتمعات تخشى من الحظر الألكتروني والمعاقبة بالعزلة، إذا لم تنصع للقيود المفروضة التي ستتحول إلى سلوك طبيعي بعامل التراكم والزمن.

المشكلة الجوهرية أن العرب بشكل عام لا يملكون سياسة مواجهة علمية مع نهر التكنولوجيا الهادر الذي يريد فرض نوع من النمطية على جميع الشعوب التي يعتبرها مجرد مستهلكة للثروات القليلة على الأرض، ولهذا فإن هذه السياسة تصب في نظرية “المليار الذهبي” التي تبرر نشوب الحروب وممارسة الإبادات الجماعية خدمة للأقلية الناجية أو التي يفترض أن تنجو على جماجم الشعوب التي لا تشارك في عملية الإنتاج العالمي.

0
0