سيطر إسكندر المقدوني على كامل الهلال الخصيب بواسطة أربع معارك، الاولى معركة أسوس 333ق.م التي سمحت له بتجاوز جبال طوروس، والثانية حصاره الطويل لمدينة صور 332ق.م وما تبعه من مجزرة في المدينة، والثالثة معركة في مدينة غزة بعد حصار قصير، والرابعة في العراق وسمحت له بالسيطرة على بابل. أظهرت معارك اسكندر المقدوني أربعة مراكز قوى في الهلال الخصيب، ثلاثة منها على ساحل شرق المتوسط والرابع في عمق الهلال الخصيب أي بلاد ما بين النهرين. كان الهلال الخصيب وقتها تحت سيطرة الإمبراطورية الأخمينية التي عرفت نهايتها مع متابعة إسكندر المقدوني تقدمه عابراً جبال زاغروس.
كثيرة هي الدروس التاريخية التي تتحدث عن طبيعة موقع الهلال الخصيب السياسية العسكرية، وخطورة توازن الجغرافيا فيها مع القوى المحيطة مداً وجزراً، وأحد أكثر الدروس قسوة في تاريخ الهلال الخصيب هو في حدوده الجغرافية الشمالية والشرقية أي جبال طوروس وزغراوس، فكل تجاوز لهذه الجبال كان يعني انفلات القوة المقتحمة أمام أرض سهلية على كامل الساحل السوري أو أرض جبلية منيعة على المهاجم تمتد أيضا على كامل الساحل السوري من الشمال إلى الجنوب، وأرض هضبية وسهلية تمتد على امتداد نهر الفرات وبادية الشام والعراق. كانت الإمبراطورية الأخمينية وقتها تعاني من مشكلة داخلية تتعلق بولاية العهد التي وصلت إلى ما يعتبر ليس حاكماً شرعياً في التقاليد الأخمينية، مما خلق مشكلةً إمبراطوريةً استغلها إسكندر المقدوني كما يجب، كما أن الامبراطورية الأخمينية كانت تحكم الهلال الخصيب متيحة له حرية واسعة وامتيازات كبيرة، فمدينة صور مثلاً لم تقاتل دفاعاً عن بقاء الإمبراطورية بمقدار ما حاربت دفاعاً عن امتيازاتها كمدينة دولة لم يرضَ إسكندر أن يمنحها هذا الامتياز، ولأن مصر ذلك الوقت لم تحارب إسكندر المقدوني فقد استطاع بسهولة السيطرة عليها ومتابعة طريقه باتجاه بابل وكانت المعركة الرابعة في الهلال الخصيب.
ليست صورة واقع القوى الأربع ببعيدة عما يجري في غزة منذ 7 و 8 تشرين عن اللحظة التي اقتحم فيها إسكندر المقدوني الهلال الخصيب. فما يسمى دول المحور موزعة على مراكز القوى التي حاربت قوة إسكندر المقدوني. غزة = فلسطين (فصائل المقاومة في غزة) صور = جنوب لبنان (حزب الله والمقاومة الوطنية) بابل = العراق (الحشد الشعبي وتفريعاته) اسوس = سوريا (الجيش السوري والقوى الرديفة) . وخارج الهلال الخصيب وكعمق لبلاد ما بين النهرين تظهر الجمهورية الإسلامية الإيرانية كمركز رئيسي خامس، ومفاجأة هذا المحور الذهبية هي اليمن = الحوثيون الذين جعلوا القوى الثلاث الممتدة على خط شرق الساحل السوري أربع قوى إذا أخذنا موقف اليمن كامتداد جغرافيا من الساحل السوري على شكل خط ممتد إلى الجنوب عبر البحر الأحمر.
ليست هذه المراكز للقوى جسداً واحداً بمعطى القرار مما يجعلها مكبلة بحسابتها المحلية الخاصة، ولكنه أيضاً يمنحها مرونة في تحمل المسؤولية والتغطية وتبادل الأدوار، وهي بجميع من يحمل السلاح بشكل مباشر ومنخرط في الحرب على الحدود قوى حزبية محضة. فيظهر المبضع الدقيق في غزة يعمل بالعدو جنوباً بينما المبضعان القاتلان والمالكان لمقدرة إنهاء إسرائيل يعمل أحدهما في لبنان (حزبي) والآخر السوري (دولة) يترقب التطورات.
ورغم تشابه مراكز القوى الجغرافية التي حاربت إسكندر المقدوني، ولكنّ هناك فارقان مهمان في حساب المعركة وقتها والآن لا بدّ من أخذهما بعين الاعتبار..
الأول: أن إسكندر كان وافداً جديداً استطاع اقتحام خط الدفاع عن الهلال الخصيب في أسوس بينما العدو اليهودي مستقر منذ عقود ومترسخ ومتعقد المصالح مع البيئات المحيطة بالهلال الخصيب.
الثاني: يتحدث المؤمنون بالمحور عن وحدة الساحات في المعركة بينما الأدق في التوصيف هو وحدة المسافات مما يعطي للمعركة زخماً تاريخياً مشرقياً كبيراً كان مفقوداً عند دخول إسكندر المقدوني، وبالتحديد منذ سقوط الدولة السورية الآشورية.
إن وحدة المسافات يدخلنا بمفهوم الخواصر الرخوة في مراكز القوى المحاربة بشكل مباشر أو غير مباشر، والخواصر الرخوة لها مفهوم عسكري تكتيكي ومدني معرفي. يحتاج المدني المعرفي إلى مقال منفرد بينما يمكن تلخيص الجانب العسكري بمجموعة من النقاط:
- ذراع الناتو الإسلامي (داعش والنصرة ومشتقاتهم) الأكثر خطراً هما الموجودان في لبنان (مستحدث منذ ما قبل طوفان الأقصى بأشهر) وسوريا أقصد شمال اللاذقية، وبين الشام والعراق برعاية قاعدة التنف وهم الأقل خطراً كموقع جغرافي وخطورته الحقيقية هي اتصاله الجغرافي بالسعودية.
- المشروع الوليد عن فكرة المشروع الصهوني المتمثل بمشروع الدولة الكردية، وبالمناسبة هذا مشروع يقتات على فكرة تسجيل النقاط، مع ملاحظة الخطر الشديد الذي يتعرض له دولياً بعد معركة طوفان الأقصى.
- خلايا الدفاع عن العدو اليهودي الموجودة في درعا والسويداء.
- مصر المحاذية لغزة هي الخاصرة الأكثر خطراً على هذه النقطة في شرق المتوسط، فمصر منخرطة بالمعركة ضد غزة كبعد إنساني من جانب المساعدات وبعد إقليمي في التصدي لما يطلقه اليمن أو لمن يحاول التسلل إلى غزة، ويبقى دورها الأكثر انخراطاً بالمعركة لمصلحة العدو اليهودي مجهولاً ينتظر التحقق.
تعاني إيران واليمن من خواصر رخوة تتعلق بالوجود الأمريكي الملاصق لهما، ولكن إيران من جهة تملك المقدرة العسكرية والاستخبارتية والسياسية للتعامل مع هذه القواعد، بينما ليس أمام ما يفعله اليمن وتدعاياته إلا أنه يريد أن يتم استهدافه وضربه ليكون أكثر حرية وأكبر حجماً في المعركة وبالتالي يمكن وصف اليمن بالبطاقة الذهبية لدول المحور. يبدو أن اليمن سيتحول إلى قوة إقليمية لها دورها في رسم طريق الاقتصاد العالمي القادم.
يظهر عند التدقيق في الخواصر الرخوة أنها جميعاً فاعلة في الهلال الخصيب بقوة، وهي بؤر تنتظر تداعيات المعركة على العدو لتعطى القرار في الانخراط دفاعاً عنه وخاصة بؤرة إدلب- اللاذقية ولبنان. وبمقدار ما يفيد التعامل العسكري مع هذه الخواصر (كما فعلت إيران بقصفها في إدلب واربيل) بمقدار ما يضر الانخراط حالياً بمعركة قوية معها، فهي خواصر يجب تجميدها لأن طبيعة وجودها ونشاطها تتعلق بمقدرة الوجود الأمريكي بالتحديد.
إذا وضعنا المستويات الثلاثة التي يدعي العدو أنه خاض معركته في غزة على أساسها (وهي القتل فقط) يظهر نشاط المحور العسكري مندرج حتى الآن في مستوى هدف واحد ورئيسي وهو إيقاف الحرب على غزة مع الحفاظ عليها أمام الرأي العالمي كساحة رئيسية للحدث، ومستوى ثانوي يماشيه بوضوح وهو إضعاف بقاء الدولة اليهودية مع إيقاف الحرب (في حال توقفت ضد غزة وتحقق الهدف من المساندة)، وبالتالي إن أي تطور لمستوى آخر في المعركة ضد العدو سوى وقف الحرب على غزة يعني انخراط جبهات مساندة لاسرائيل والولايات المتحدة في المعركة وبالتحديد الإمارات والسعودية، فيبدو أن الوصول إلى هذا الهدف يقتضي جهداً رادعاً عسكرياً أو أمنياً محضاً، وربما هنا يظهر معنى الضربة الإيرانية لباكستان التي تعتبر دولة نووية ومن هنا ستظهر الأيام القادمة طبيعة الضربات الإيرانية لكل ما يمكن أن يشكل خطراً على المستوى الثاني الذي يمكن أن يدخل فيه المحور بصمت.
تحدث الأستاذ نضال حمادة على صفحته في الفيسبوك أن القيادة اليمنية تدرس عمليات على مثلث مضائق قناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز وستسميه مثلث الأقصى لمنع وصول النفط والغاز لدولة العدو من قطر والإمارات، مما سيعني لو تم هذا الأمر أن مرحلة إغلاق موانئ دولة العدو على شرق المتوسط ستكون بداية الاحتكاك الحقيقي بالقوة الأمريكية في شرق المتوسط وأن مثلث سوريا ولبنان وغزة بعمق بغداد وطهران مسؤول عن هذه الجبهة وربما يكون هذا هو المستوى الثاني لمعركة المحور والذي سيكون قد تجاوز فيه فكرة ايقاف الحرب على غزة.
إن موقع فصل القوة لهذا المحور هي الجمهورية السورية لسببين، الأول: أنها القوة الوحيدة التي تمثل دولة تشرف على شرق المتوسط وليس حزباً مقاوماً، والثاني: هو الوجود الروسي في سوريا وعلى شرق المتوسط.
لقد جعل العقل المدبر لطوفان الأقصى جغرافيا الهلال الخصيب تتحدث بعنف، فالقوى الظاهرة على شرق المتوسط سيكون لها القول الفصل للعمق الجغرافي والمخزون التاريخي الممتد إلى آلاف السنين والمصالح.
لقد حرق طوفان الأقصى كل ترهات الثقافة المتغربة التي عرفتها أسواق البيع والشراء في العقود الماضية، ولنتذكر معاً كمية الأصوات والمقالات والدراسات التي قالت أن داعش يمثل الإسلام وهي الآن خرساء ولا تقول أن إيران تمثل الإسلام، لنتذكر كمية الهراء التافه الذي راج قبل الحرب على سوريا عن أزمة الهويات في المنطقة وكمية السموم الطائفية والاجتماعية التي صبت في قوالب الأدب والفن والعلم وهي الآن خرساء تنتظر أن ينجلي الحدث عما يساعدها لاستمرار تفاهتها المعرفية.
ما بعد الطوفان ليس كما قبله، فالأسطورة السورية علمتنا أن من أطلق الطوفان هو الذي أوقفه، وهو نفسه من ساعد الإنسانية على النجاة، وبالتالي استحق إنساننا السوري الخلود واستحق الشرعية التي هبطت من السماء بعد توقف الطوفان لتبارك مدنيته الأولى في العالم.