تمهيد
استدعت المقالات الثلاثة التي نشرناها تباعا وتتضمن دعوتنا لحزب الله والتيار الوطني الحر أن يبادرا إلى تقديم مشروع الدولة المدنية ردود فعل مختلفة ومن مصادر مختلفة. قسم منها كان مؤيدا، قسم أخر كان موافقا على مضمونها ولكن متحفظا تحت باب “مش وقتها ولا فائدة منها الآن”، وقسم اعتبرها هجوما على المقاومة. في هذا المقال سوف ننهي تلك السلسلة بتعليق على كل ما ورد.
واحد: جزيرة القيامة
جزيرة القيامة، Easter Island، هي جزيرة بركانية صغيرة من جزر المحيط الهادئ تبلغ مساحتها حوالي مائة وستين كلمًا متربعا، وتقع على بعد حوالي 2300 كلم إلى الغرب من تشيلي، وتتبع سياسيا لها. ما يميز هذه الجزيرة من سواها هو في التماثيل العملاقة التي تزنر شاطئها وشبه الانقراض الذي تعرض له سكانها الاصليون، والعلاقة بين الاثنين.
في ذروتها الاجتماعية والاقتصادية، كانت الجزيرة مغطاة بغابات هائلة من أحد فصائل شجر جوز الهند يصل قطر بعضها إلى ما يزيد عن المترين، وطولها إلى حوالي الخمسة عشر مترا. بلغ عدد سكانها في تلك الذروة حوالي سبع عشرة ألف نسمة موزعة على عدد من القبائل. وكانوا يعيشون من الزراعة وصيد الأسماك الكبيرة مثل سمك التون وغيرها والتي كانوا يصطادونها بواسطة قوارب خشبية كبيرة تسمح لهم بالإبحار بعيدا عن الشاطئ.
في لحظة ما من تاريخ الجزيرة، يقرر رؤساء القبائل، والذين كانوا يدّعون صلة مباشرة بالخالق، ويلعبون دور السياسي ورجل الدين في آن، أن يشيدوا تماثيل (طواطم) تخلدهم، فأمروا رجالهم ببناء تماثيل جبارة من الرماد البركاني، يبلغ عدد الموثقة منها ثمانمائة وسبعة وثمانين، مع أن العدد الإجمالي قد يبلغ الألف، طول كل منها حوالي العشرة أمتار وتتراوح أوزانها بين الخمسين والثمانين طنا.
حاشية: وُجد عدد كبير من الطواطم مرمية على الأرض بالقرب من منصاتها. تحليل “جارد دايموند” لذلك أنه حين بدأ الجوع يضرب جزيرة القيامة ولم يتمكن القادة، ولا الطواطم، من دفع خطره، قام الناس بالإطاحة بالتماثيل تعبيرا عن غضبهم. ولكن لا ذكر لما حدث للقادة الذين أوعزوا ببناء الطواطم.
اثنان: الاعتراف
أخيرا، وبعد نكران استمر طوال خمسة وأربعين عاما، اعترف كل من رئيس “الكتائب اللبنانية” سامي أم
ولم يأت الاعتراف بصيغة الندم والتأسف على أخطاء ماضية، ولا على ضحايا الحرب، بل تنافسا بصيغة الافتخار وما يبدو تسابقا لارتكاب أخطاء قادمة وضحايا جدد.
من جهة ثانية، اعترف السيد وليد جنبلاط بأنه كان “رأس حربة لتدمير “العيش المشترك” بتحريض من الأمريكان” في 7 و11 أيار من سنة 2008. ولا ينسى أحد اعترافاته السابقة عن “لحظة التخلي” وندمه الظاهري عن جرائمه في الحرب اللبنانية والتي طالب بمحاكمته هو وأمراء الحرب بسببها.
الخطر في تصريح جنبلاط أن لا شيء يمنع تكرار ما فعله أكثر من مرة، ومن ثم قيامه بنقد ذاتي يعترف فيه بخطئه ليعود ويقع فيه مرة ثانية وثالثة. أما الخطر في تصريحي أولاد العم – جميّل، فيكمن في أنهما لا ينطلقان من فراغ بل من لحظة تاريخية يعاني فيها لبنان من الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي ووباء الكورونا والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة والضغوط الأميركية المساندة لها سواء عبر تهريب العملاء أو تشديد القبضة المالية أو في حشد قسم من رؤساء المافيات اللبنانية في وجه الحكومة الجديدة.
هل يمكن اعتبار هذه الاعترافات بمثابة إخبار يلاحق فيه من تسبب بتلك الحرب والأحداث، فيستعيد الأحياء من الضحايا وعائلاتهم بعضا من كرامتهم وحقوقهم؟ طبعا لا. ففي “الديمقراطية التوافقية لا قيمة للمواطن في حد ذاته”، ولبنان بلد تنهشه الديمقراطية التوافقية.
كل هذا يستدعي قلقا حقيقيا لدى المقاومة. المهم الا يتحول القلق الى اضطراب في الأعصاب.
ثلاثة: الحقيقة والتوقيت وقلق المقاومة
كما ورد في التمهيد استثارت مقالاتنا السابقة عددا من ردود الفعل كان أهمها رأي بعض الأصدقاء أنهم فيما يوافقون على المضمون، فإنهم لا يوافقون على التوقيت، ولا على الفائدة المرجوة. كذلك وَرَدَنا أن ثمة استياء في أوساط المقاومة من مقالاتنا تلك معتبرين أنها جزء من حملة أو مؤامرة ضد المقاومة خاصة في ظل الظروف القائمة. سوف نناقش هاتين النقطتين لأهميتهما.
وسمعناها يوم حذّرنا من اتفاق الطائف وأبدينا قلقنا من أن يرسّخ الطائفية عوضا من أن يكون ممرا إلى الدولة المدنية. كان الجواب، “مش وقتها، الناس بدها تخلص من الحرب.” وسمعناها يوم وقعت مجزرة حلبا، فكتبنا نسأل “من المسؤول”؟ فكان الرد، “مش وقتها”. وهكذا، في كل مرّة كان يجب أن يطرح سؤال أساسي تمهيدا لتغيير في الأداء كان الجواب “مش وقتها”. وها نحن، بعد كل الوقت المهدور والخسائر الجمّة نجد أنه لم يتم الالتفات إلى أي من هذه المسائل.
إن “مش وقتها” لا تعني أن “وقتها” سوف يأتي يوما ما، بل تعنى “إنس الموضوع.”
أما بالنسبة للفائدة من تحفيزنا لكل من التيار الوطني الحر ولحزب الله ان ينطلقا في وضع مشروع الدولة المدنية على سكة التنفيذ، تطبيقا لاتفاق الطائف، فقد فصّلناها في مقالات ثلاث، وعرضنا المقابل البشع والأخطار الناجمة في حال لم يُصَر إلى نقل البلد من الديمقراطية التوافقية إلى الديمقراطية الفعلية.
ختام
يسأل مؤلف كتاب “الانهيار” Collapse جارد دايموند، Jared Diamond والذي أخذنا منه أكثر معلوماتنا عن جزيرة القيامة وانهيارها، يسأل، “ما الذي كان يدور في خلد الرجل الذي قطع أخر شجرة على الجزيرة؟” أما نحن فنسأل، ألم يوجد في الجزيرة من حذّر من مغبة القضاء على مقومات الوجود؟ ما كان مصيره؟ هل اتهم أنه يعمل لتحطيم شأن القيادات السياسية والدينية الحاكمة في الجزيرة؟
ونحن، إذ نرى القيادات السياسية والمذهبية في لبنان تبني طوطما إثر طوطم تعلية لشأنها على حساب مقومات الوطن الوجودية، وإذ نرى قيادات لا تتعلم من أخطائها بل تعمل على تكرارها، وإذ نرى جهات تخشى الرأي الحر المستقل الصادق الصدوق نقول إننا لن نيأس، ولن نسكت. إن مسؤوليتنا نابعة من وجداننا القومي الاجتماعي، من مصلحة شعبنا كله، لا فئة واحدة منه. لقد قلنا كلمتنا، ولكننا “لن نمشي” و “لن نندم” بل سنتابع. إنها مسؤوليتنا، والمسؤولية كلمة.
0 Comment
ممتاز
شكرا على مرورك وتشجيعك.
توجه جيد ويفيد المقاومة ويفيد البلاد.
شكرا أمين إيلي.