هل كان أحدٌ منا يتوقع أن يمر كتاب الرفيق شحادة الغاوي مرور الكرام، فلا يثير غبار الاستياء والتشهير والمقاطعة التي طغت أخبارها على المضمون الذي يتطلب منا بالفعل نقاشاً هادئاً وعقلانياً يليق بالفكر القومي الاجتماعي، بغض النظر عن أي اعتبارات مسبقة؟
قلة منا رافقت مراحل معينة من تأليف الكتاب، فكانت تعرف حساسية المحتويات وتتوقع حجم الصدمة التي سيفجّرها ليس فقط بين القوميين الاجتماعيين، بل أيضاً على المستوى القومي العام لأن تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي هو ـ بشكل من الأشكال ـ جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة السورية المعاصر.
أما الذين لم يطلعوا على المضمون قبل النشر، فيكفي أن يلقوا نظرة على العنوان ليدركوا وعورة السُبل التي قرر الرفيق شحادة السير في حقل ألغامها. “الأسباب والعوامل الحزبية الداخلية في تاريخ استشهاد سعاده… وما بعده ـ قراءة ناقدة في تاريخ صاخب”. إن استشهاد سعاده جرح مفتوح في الوجدان القومي، وإذا تناولناه أيضاً من الجوانب الداخلية فسنجد أنفسنا أمام سلسلة من المرويات غير المنسجمة مع بعضها تماماً. والرفيق شحادة لم يكتفِ بمرحلة استشهاد سعاده، بل واصل إلى “ما بعده”! وهنا “الحركشة” الخطيرة لعش الدبابير، لأن اللسعات المؤذية ستطال كل التاريخ الحزبي حتى يومنا هذا. وأخيراً تأتي “الضربة تحت الزنار” في عبارة “قراءة ناقدة” التي يبدو أنها غير معمول بها عند الذين ما عادوا يتقبلون سوى فروض الطاعة العمياء.
أبدأ بالقول إنني لا أتفق مع كثير من المسائل الواردة في كتاب الرفيق شحادة، وأختلف مع بعض تحليلاته واستنتاجاته في ما يتعلق بعدد لا بأس به من الأحداث الحزبية، ودور بعض القيادات في تلك الأحداث. وسأعود إلى هذه المسائل في مقالات لاحقة مشاركةً مني في دراسة تاريخ الحزب، كما علمنا حضرة الزعيم، وصولاً إلى الوضوح الذي هو شرط اليقين. فمن خلال الوضوح في قراءة تاريخ الحزب، بعيداً عن الغرضية والفئوية، نضمن سلامة المسيرة الحزبية ونتأكد من أن الأجيال المقبلة ستضع يدها على الحقائق المجردة.
كتاب الرفيق شحادة يتناول وقائع تاريخية ثابتة، بعض أبطالها معروف وبعضهم الآخر مجهول. ولأن الوثائق والمرويات والمذكرات الصادرة على مدى العقود الماضية لا توفر لنا سرداً موحداً لتلك الوقائع، فمن الطبيعي أن تتعدد القراءات والتفسيرات… ومن بينها القراءة والتفسير اللذان اعتمدهما المؤلف. وقبل أن يسارع المتهورون إلى اتهامي بالدفاع عن وجهات نظر الرفيق شحادة، أكرر القول إنني أفترق عنه في عدد من الجوانب المتعلقة بفهمي الخاص للأحداث الحزبية ودور بعض القيادات فيها.
لكن أن يصدر “قرار حزبي” بمقاطعة الكتاب، مع تهديد موصوف بمنع ندوات المؤلف، فهذا لعَمري ذروة الضعف والصفاقة وقلة الاحترام للقوميين الاجتماعيين القادرين على التمييز بين الصالح والطالح. أما إذا كان الذي أصدر “قرار المنع والقمع” يعتقد بأن الكتاب ـ أي كتاب ـ يمكن أن يشوّه عقول القوميين ويُدخل الشك في نفوسهم… فإنه يقدم الدليل الدامغ على فشل ذلك “المركز” في صقل ثقافة القوميين وتحصينهم ضد كل ما من شأنه أن يشكل تحدياً فكرياً للعقيدة القومية الاجتماعية.
ويندرج ضمن هذا الموقف السلبي كل الذين حاولوا أن “يغتالوا” شخصية الرفيق شحادة وشخصية ناشر الكتاب وشخصيات المشاركين في الندوات. إن “شخصنة” النقاش هي من أسهل أساليب المواجهة لأنها تجنب صاحبها الغوص في المسائل الأساسية. ألم يقل رفيقنا الراحل سعيد تقي الدين إنك إذا أردت قتل شخص فلا تطلق عليه رصاصة بل إشاعة؟ الاتهامات والتوصيفات، بل والشتائم، قد تُشعر صاحبها بالراحة لأنها تنفّس عن غيظه وتفرج عليه همّه وتجعله ينام مطمئناً قرير العين بعد أن يكون قد أدى قسطه للعُلى… لكنها لا تقدم ولا تؤخر في إضافة أية معلومة جديدة للوقائع التي قد يكون المؤلف أخطأ في فهمها أو أساء تفسيرها. إذا كان الحديث النبوي لمحمد بن عبدالله “مَنْ اجتهد ولم يصب فله أجر واحد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران”، ينطبق على النص الديني الذي هو بطبيعته نص قطعي، فكم بالحري أن نطبقه على نص قومي اجتماعي يؤمن بأن العقل هو الشرع الأعلى. يقول سعاده: “إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حسّ ما فيصلح غلطه باستنتاج امرئ آخر أو تأويله أو حسّه الصحيح”! (شروح في العقيدة، صفحة 164. طبعة 1958).
ولنسلم جدلاً بأن الرفيق شحادة أخطأ في كثير من تحليلاته وتفسيراته، فهل يلغي هذا الخطأ الوقائع الدامية التي مرّ بها الحزب منذ استشهاد سعاده حتى اليوم؟ هل بادرت القيادات الحزبية المتعاقبة، في تنظيماتها المختلفة، إلى تشكيل لجنة متخصصة لتسجيل تاريخ الحزب تقوم بمراجعة نقدية متأنية يكون همها الوحيد الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة، بدلاً من التخفي وراء المرويات والمذكرات التي تهدف إلى تبرئة الذات أو إراحة الضمير الشخصي؟ إن غياب المؤسسات، أو تغييبها المتعمد، هو الذي ترك الساحة مفتوحة لكل من يريد العبث بتراث سعاده وبالفكر القومي الاجتماعي وبتاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي.
في منتصف خمسينات القرن الماضي، نشأت في الحزب “لجنة نشر” مهمتها “جمع تراث سعاده مصنفاً حسب المواضيع”. وبالفعل أنجزت مجموعة كتب لحضرة الزعيم منها: “شروح في العقيدة” و”مراحل المسألة الفلسطينية” و”أعداء العرب أعداء لبنان” و”سعاده في أول آذار”. يومها أعلنت “اللجنة” عن كتاب سيصدر قريباً في السلسلة نفسها تحت عنوان “فصول من تاريخ الحزب”… لكن حسب علمي لم يرَ ذلك الكتاب النور!
والآن هاكم أمثلة من الأحداث المفصلية في مسيرة الحزب:
- سنة 1954 أقدم عدد من الرفقاء المسلحين على تهديد أعضاء المجلس الأعلى بعد انتخاب عصام المحايري لرئاسة الحزب. هذه واقعة ثابتة. فمن هم هؤلاء الرفقاء، ومن حرّضهم، ومن أعطاهم الأوامر، ولماذا لم تتم محاسبتهم آنذاك؟
- سنة 1956 انخرطت القيادة الحزبية في خطة لتغيير نظام الحكم في الشام بالتعاون مع أطراف قومية وأجنبية. هذه واقعة ثابتة. من اتخذ القرار، ومع من كان التعاون، وما هو ثمن ذلك التعاون، ولماذا فشل المخطط؟
- سنة 1974 نشأ “تنظيم سرّي” في الحزب راح يوزع بيانات تهاجم القيادة وتتهمها بالعمالة. هذه واقعة ثابتة. من كان يقف وراء هذا التنظيم، وما الهدف منه، وهل تمت محاسبة القائمين عليه؟
- سنة 1974 أيضاً أقدم عدد من الرفقاء المسلحين على احتلال مركز الحزب في جل الديب، وحجزوا أعضاء المجلس الأعلى لمنعهم من إقالة الرئيس يوسف الأشقر. هذه واقعة ثابتة. فمن هم هؤلاء الرفقاء، ومن حرّضهم، ومن أعطاهم الأوامر، ولماذا لم تتم محاسبتهم آنذاك؟
- والأخطر من كل ذلك أن وسيم زين الدين (1975) ومحمد سليم (1985) وحبيب كيروز (1987) وتوفيق الصفدي (1987) وغيرهم من الرفقاء سقطوا برصاص قومي اجتماعي. هذه وقائع ثابتة. فمن أطلق النار، ومن حرّض، ومن أعطى الأوامر، ولماذا لم تتم المحاسبة إطلاقاً؟
إنها وقائع دامغة حرصت القيادات الحزبية المتعاقبة على حجب حقائقها عن القوميين الاجتماعيين من خلال تسويات فوقية مصلحية، على أساس أن “غسيلنا الوسخ” يجب أن لا يُنشر على الملأ، حتى ولو ظل وسِخاً تزكم نتانته أنوف المواطنين، ناهيك عن القوميين أنفسهم.
يقول الدكتور خليل سعاده في واحدة من قصائده: “لقد شببنا عن الطوق إنّا أمة…”. إن الغالبية العظمى من القوميين الاجتماعيين الذين حررهم أيمانهم القومي وانتماؤهم الحزبي ليسوا في وارد العودة إلى القمقم، أو الاصطفاف الخانع مع القطيع.