كسر القيد- الافتتاحية- رئيس التحرير

اسامه المهتار

Share

أمام حزب الله والتيار الوطني الحر فرصة لتغيير الوضع جذريا في لبنان، فهل يُقدمان؟

في سنة 2005 نشرنا مقالا بعنوان “هل من يدلنا؟” (المرجع رقم 1) ، أشرنا فيه إلى مكمن ضعف في كل من هاتين الحركتين. وعنوان المقال، كما يتضح من السياق، هو سؤال تحضيضي. إنه يحض القارئ للوصول إلى نتيجة معينة.

في ذلك المقال، وضعنا التحذير التالي:

“لا خلاف بين العماد عون وسماحة نصر الله على نصف المشكلة اللبنانيَّة: الإصلاح السياسي والإداري. ولكن هذا النصف لا قيمة له دون النظر إلى النصف الآخر الفارغ من كوب كلٍّ منهما: المقاومة من كوب الأوَّل، وفصل الدين عن الدولة من كوب الثاني. تيَّار العماد عون، ومنظَّمة “حزب الله” محكومان، على المدى البعيد بالفشل الأكيد إن لم ينظرا إلى نصف الكوب الفارغ في مقولة كلٍّ منهما.”

كان ذلك منذ خمس عشرة سنة. وها نحن نجد أنفسنا – قبل انتشار الكورونا – في وضع سياسي، اجتماعي، اقتصادي منهار يتحمل هذان التنظيمان قسما كبيرا من مسؤولية الفشل حياله.

السؤال اليوم هو التالي: إذا لم يرَ الفريقان، خلال خمس عشرة سنة، ضرورة لإعادة النظر بالمنطلقات المذهبية التي يقومان عليها، ألم يحن الوقت لذلك؟ ذلك أن التيار الوطني الحر، ومع الأسف، يعمل ليبقي الفريق الأقوى ضمن “المكوّن المسيحي”، فيما يرى حزب الله نفسه “مقاومة إسلامية وجزءًا من مشروع الدولة الإسلامية الكبرى.”

لم يخرج التيار الوطني الحر عمّا سماه رئيس جهاز الإعلام والتواصل في القوات اللبنانية، شارل جبّور، “تركيبة الوجدان المسيحي والنظرة التطلعية داخل البيئة المسيحية،” وقد فندناها في حينه في مقال بعنوان العذاب المبرر. (المرجع رقم 2) ولا نخاله يخالفه الرأي في أن حبيب الشرتوني، هو من الموارنة ولكنه “خوارج” عن هذه التركيبة وهذا الوجدان. ولا يخالفه الرأي في نظرته إلى الحرب اللبنانية على أنها كانت حرب دفاع عن “الوجود المسيحي”، وأن تحالف الكتائب ومن ثم القوات مع العدو الإسرائيلي كان نتيجة طبيعية لذلك. لم يُدن التيار تلك المرحلة ولا تلك التحالفات. بل إنه احتفل، مع القوات والكتائب، بشخص رئيسه، بالحكم على الأمين حبيب الشرتوني والأمين الراحل نبيل العلم، المارونيان “الخارجيان”، بالإعدام. لا، لا يختلف التيار في كل هذا عن القوات اللبنانية التي ترى أن تاريخها ناصع وأن بشير الجميل قديس، “غصبا عن الله تبع الله.” (المرجع رقم 3).

أما حزب الله، وتحديدا السيد حسن نصرالله، فلم يعلن مرة تراجعه عن إيمانه بولاية الفقيه والدولة الإسلامية الكبرى وأن مشروعه، بعد “إزاحة الحالة الاستعمارية والإسرائيلية” هو “مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام؛ أن يكون لبنان، ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني.” (المرجع رقم 4) ومع أن هذا الكلام يعود إلى أكثر من ثلاثين سنة، إلا أن السيد نصرالله قد كرر مثله في أكثر من مناسبة. (المرجع رقم 5).

بالأمس، اجتاح غضب عارم قسمًا كبيرًا من اللبنانيين ومن أصدقاء المقاومة وداعميها خلال عقود، نتيجة إخلاء سبيل العميل فاخوري وتهريبه خارج لبنان. هذا الإخلاء وهذا التهريب ما كان يمكن أن يمرّا لولا قيود المذهبية التي تأسر كلا من التيار الوطني الحر وحزب الله. فلنفصّل.

قرارات التيار الوطني الحر، محكومة، في جزء كبير منها، بالتنافس على ما يسمى “الزعامة المسيحية” مع خصمه الأول “القوات اللبنانية.” موقف القوات من التعامل مع إسرائيل معروف، وعلاقتها الوطيدة بأمريكا والسعودية – التي كشفت عن علاقتها مع إسرائيل – معروفة. وهي مؤيَّدة في ذلك من قطاع كبير من المسيحيين في لبنان وعلى رأسهم الكنيسة المارونية، التي يرى رأسها أن العملاء “مبعدون قسرا” إلى إسرائيل. القوات مدعومة إسرائيليا وأمريكيا وسعوديا، أما التيار ففي عزلة يشتد خناقها عليه أمريكيا وعربيا، ومن وراء الستار، إسرائيليا، بسبب تحالفه مع حزب الله.

حزب الله، الذي يرى في إسرائيل مشروعا استعماريا استكباريا يجب القضاء عليه، محكوم بالمحافظة على علاقته بشريكه، التيار الوطني الحر، نتيجة وثيقة التفاهم (المرجع رقم 6) بينهما في شباط من سنة 2006، ونتيجة ما يشعر به من دَيْنٍ عليه “ليوم الدين” بسبب موقف التيار أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في شهر تموز من السنة نفسها. كل من الطرفين المذهبيين يحتاج إلى غطاء من الآخر. المشكلة أن التيار لا يشارك شريكه رؤيته في نظرته لإسرائيل ولا للعملاء ولا للدولة.

قبل تفاهم 2006، قام حزب الله بخطوتين أزعجتا بعض حلفائه وأصدقائه: الأولى، عدم معارضة إخراج سمير جعجع من السجن في شهر تموز من سنة 2005، والاكتفاء بالتغيّب عن جلسة التصويت – وقد شاركه في ذلك حركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي. الثانية، ما ظهر وكأنه تخلٍ عن الضباط الأربعة بعد اغتيال الحريري، وذلك بعد شهر من الافراج عن سمير جعجع. بعد التفاهم، كان هناك عدد من الخطوات تجاه التيار وعلى حساب بعض حلفائه، مثل التساهل الكبير في معالجة ملف العملاء العائدين، وبعض الذين كشف عن تعاملهم في لبنان. كذلك كان موقفه الصامت إبان محاكمة حبيب الشرتوني ونبيل العلم، وبعد صدور الحكم، علما، أن المعني الأكبر في هذا الموضوع، قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي – الروشة، كان صمتها أكثر دويا. أخيرا لا آخرا، كان الضغط على الحزب السوري القومي الاجتماعي لسحب مرشحه في مقعد الأقليات في بيروت في الانتخابات الماضية لصالح مرشح التيار.

في رأينا، كل واحدة من هذه الخطوات كانت تراجعا، وشكلت مجتمعة، مقدمة لما حصل مع الفاخوري. أما خطرها ففي ثلاثة: أولا، تثبيت منطق اليمين اللبناني عامة، وليس المسيحي فقط، بأن التعامل مع إسرائيل هو وجهة نظر يمكن للمقاومة أن ترفضها، ولكن عليها احترام من يقبلها، فإن لم تفعل، جاء من يثبتها بالقوة؛ ثانيا، كسر هيبة حزب الله حيال أصدقائه أولا، وحيال عائلات شهداء معتقل الخيام وجمهور المقاومة في شكل عام، ما دفع السيد نصرالله لوصف اضطراره للدفاع عن المقاومة في ملف الفاخوري أنه من “نكد الدهر”؛ ثالثا، وهو الخطر الأكبر، أن يضطر كل من حزب الله والتيار لزيادة التطرف المذهبي لكسب “الجمهور المسيحي عند هذا و”جمهور المقاومة” عند ذاك.

لا نريد أن ندخل في تفاصيل ما حدث مع الفاخوري، فنصرالله كان واضحا لناحية الضغوط التي ووجهت لمدة ستة أشهر قبل أن تنهار الدفاعات، ولناحية جهله وحركة أمل بما جرى في آخر يومين. بالتالي، يمكن اختصار موقف الأصدقاء المنتقدين، أقله الذين سمعناهم أو قرأنا لهم، إنه يقع في باب “العتب على قدر التوقعات.” لقد توقعت الناس أن تكون المقاومة في حالة يقظة تامة 24/24 حيال الفاخوري، فإذا به يُسحب كشعرة من عجينة. الخيبة إذا، والغضب، ليسا من شبهة وقوع صفقة، ولا من كون حزب الله، هو الدولة، وهو ليس كذلك. الخيبة هي أنه ظهر وكأنه قائد سيارة غفا للحظة عند أكثر المنعطفات خطورة.

المهم الآن هو المستقبل. ونحن، انطلاقا من كلام السيد نصرالله عن حادثة الفاخوري، (المرجع رقم 7) عن استعداده لقبول النقد والمشورة علنا، وحيث أنه لا مجال لنا لتقديمها شخصيا، نتقدم بها إليه وإلى التيار الوطني الحر على صفحات مجلتنا.

في المذهبية موت للوطن، والشاهد لبنان بعد قرن من تأسيسه على قواعد مذهبية. رؤية الناس للآخرة شأنهم، أما بناء الدولة فشيء آخر. وبناؤها على أساس ديني ومذهبي هو بناء عائب بغض النظر عن العقيدة الدينية. والعيب الأساس هو ان النظرة الدينية هي نظرة إقصائية Exclusive وليست نظرة جامعة، Inclusive. ومهما اعتقدت النظرة الدينية أنها عادلة، فإنها بطبيعتها تستثني من هم خارجها من الحقوق حتى ولو كانوا مذاهب مختلفة من دين واحد. فالتاريخ يزخر بالحمّامات الدموية بين مذاهب الأديان الواحدة.

بناء عليه، إن مشروع الغد، بل اليوم، الذي يستطيع حزب الله والتيار الوطني الحر إطلاقه هو كسر قيد المذهبية و وبناء الدولة المدنية على أساس فصل الدين عن الدولة. ولا شك عندنا أن غالبية الشعب في لبنان سوف تقف معهما. وسيجدان ان من سوف يعارضهما سيكون خارج الزمن والتاريخ. ولكن لهذا شرط أساس: التخلي عن النظرة الدينية لبناء الدولة والبدء بتأسيس جمهورية لبنان المدنية.

مراجع:

  1. مقال هل من يدلنا
  2. مقال العذاب المبرر
  3. مقابلة شارل جبور “بشير قديس غصبا عن الله تبع الله.”
  4. خطاب السيد نصرالله عن الدولة الإسلامية وولاية الفقيه
  5. خطاب السيد نصرالله الثاني عن ولاية الفقيه
  6. وثيقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله
  7. خطاب السيد نصرالله عن الفاخوري

 

0
0

0 Comment

شحادي الغاوي 31 مارس، 2020 - 1:33 ص

مقال رائع، يقدم مشهداً متسلسلاً وواضحاً جداً. لكن آخر فقرة فيه كأنها ليست منه.
“بناء عليه، إن مشروع الغد، بل اليوم، الذي يستطيع حزب الله والتيار الوطني الحر إطلاقه هو كسر قيد المذهبية و وبناء الدولة المدنية على أساس فصل الدين عن الدولة. ولا شك عندنا أن غالبية الشعب في لبنان سوف تقف معهما. وسيجدان ان من سوف يعارضهما سيكون خارج الزمن والتاريخ. ولكن لهذا شرط أساس: التخلي عن النظرة الدينية لبناء الدولة والبدء بتأسيس جمهورية لبنان المدنية.”
كيف نقول أن التيار والحزب “يستطيعان كذا وكذا…”
لا، إنهما لا يستطيعان إلغاء نفسيهما أبداً.

القرارات التاريخية الصعبة – الفينيق 3 أبريل، 2020 - 1:11 م

[…] ليس هناك أفضل من الوقت العصيب لاتخاذ القرارات التاريخية الصعبة. بهذا الاستهلال، نتابع بحثنا في الدعوة التي أطلقناها في مقالنا السابق “كسر القيد“. […]

قيمة المواطن في حد ذاته- رئيس التحرير – الفينيق 13 أبريل، 2020 - 12:01 ص

[…] نتابع في هذا المقال ما كنا بدأناه في المقالين السابقين، القرارت التاريخية الصعبة، وكسر القيد. […]

Post Comment