حكاية هيلـين

Share

قصة “حكاية هيلين” للمؤلف البريطاني تيد طومسون، حائز على جائزة آرثر سى كلارك البريطانية عن روايات الخيال العلمي.

ما زالت الفتاة على قيد الحياة، ملقاة فوق الأرض المعشوشبة بأطراف متباعدة ودماء ارتشحتْ ببطء من جرح عنقها تحت وميضِيَ الخافت. مستلقية بذراع مطوية وأظافر قابضة على ما تيسر لها من التراب والعشب. شرّعت عينيها محدقة في وجهي رغم انهمار قطرات المطر.

“اسمي هيلين، ولا أعرف من جزّ عنقي.. سأموت بغضون ست دقائق. وحيدة سأمضي، لكنه ليس بالأمر الجلل، فأنا لا أشعر بأي ألم، كما أنني مازلت أتذكر أين وضعت صناديقي المترعة بالملابس القديمة النظيفة”.

ثمانية عشر شهرًا منذ انفصال هيلين عن صديقها بمعرفتي. فأنا من قدمتُ النصح بانفصالٍ في مكان عام. لكني قصدت حضور أشخاص مقربين لا يمتون بصلة لمثل هذا المكان الخاوي المسجى بأوراق الشجر.

هدهد صوت هيلين من جرحِ رقبتها. لم يتبق من الوقت الكثير. حين رمقتني وخزني تسببي بموتها. انسكب المطر غزيراً مفجراً سيل الدماء حولها، لا أظن أي عابرٍ قصي سيدرك مقتلها.

“لم أمارس الجنس منذ عام”.

هلين ليست ميلودرامية – ما من طاقة لديها لتكون- إلا أنها تعتقد أن موتها حدث مأساوي، فمنا زال لديها الكثير لتفعله. بدا ساعدها الأيمن مكشوفاً مترعاً بآثار حقن الإبر. لاحقًا، سيخطئ المسعفون وتقنيو مسرح الجريمة بالحكم عليها، فالفتاة لا تتجرع المخدرات، حتى إنها لا تدخن. الشخص الوحيد الذي سيدرك الحقيقة هو المحقق، حين يتعرف على سبل علاج مرض الهيموفيليا.

“مالكُ متجر الكتب سمح لي بالعمل لديه، المتجر عينه الذي اضطررتُ لبيعه”.

خلال الأربع دقائق المتبقية لحياتها، صفعت قطرات المطر وجه هيلين متسربة لفمها وخياشيمها. حاولت السعال دون جدوى ليدخل الماء إلى رئتيها. لا تقلقوا، فلن تتمكن هيلين من رؤية نظارتها مرمية على بعد قدمين من عينيها فوق العشب.

“سأكون هناك خلال 15 دقيقة”. آخر رسالة نصية رأيتُها.

 “خلال الأشهر القليلة الماضية، فقدتُ الكثير من الأشياء. من الصعب شرح ذلك، فردة حذاء، مبشرة جبن ..!”.

ما قالته الفتاة صحيح فقد فقدت هيلين العديد من الأقلام، الملاعق البلاستيكية، هاتفاً، مذكرات، الحليب فقط الحليب دون علبته- إضافة إلى كتبها المفضلة.

لم يسلم فستان إشبينة العروس، أو بطاقة عملها، المفاتيح، كل المفاتيح على نحو متكرر. نافذة غرفة النوم دون الستائر، الولاعات، خامس حبة من علبة الباراسيتامول، رقم المنزل المعلق على بابها، فرشاة أسنانها . . المزيد المزيد، حتى اعتقدت هيلين أن شخصًا ما كان يدخل منزلها، فهرعت لإبلاغ الشرطة المحلية لكن دون جدوى. ارتابتْ من إصابتها بنوبات صرع أو شرود أو حتى خرف، خاصة بعدما سمعت عن أشخاص مصابين بالزهايمر يعتقدون أن ثمة من يسرق ممتلكاتهم، إلاّ أن طبيب عائلتها أكد أن دماغها على ما يرام.

لعلّ روحاً شريرة في المكان هذا ما جال بخاطرها أثناء بحثها عبر الشبكات الالكترونية، إلا أنها لم تعترف بذلك.

حقيبة مستحضرات التجميل، آخر شيء خسرته، فقط الحقيبة دون أحمر الشفاه والملمع وطلاء الأظافر. أجرت اختبارًا حيث قامت بالتقاط صورتين لغرفة معيشتها قبل الخروج وعند العودة، مقارِنة بين الصورتين مستعينة باثنين من الأصدقاء.

دقيقتان بقيتا.

ما من أشباح، بل مطاردون، هذا ما أكدته أختها إيفا التي تكبرها بعامين، لكنها ليست أكثر حكمة بكل تأكيد.

 لطالما حذرتُ هيلين من المكالمات الطويلة لساعات والتي تصيبها بالتوتر ورفع الضغط والنبض ودرجة الحرارة، حتى أنني حددت لها موعدًا مع الطبيب لإجراء فحص طبي.

تدفقتِ السيول جارفة جسد هيلين برفق فوق المنحدر لثلاثة أقدام، قبل أن يستقر قرب مجموعة من الاقحوانات.

تبقى دقيقة واحدة.

“دقيقة واحدة لأبلغ السلام”

كان الرجل غريباً، أو على الأقل هكذا اعتقدت هيلين. شعرتُ بشيء مألوفٍ من طريقة الرجل بالكلام واختياره للكلمات. تابعتُ محادثات هيلين حتى لحظاتها الأخيرة، وطوال المدة الذي استغرقها الرجل بإقناعها بمقابلته فوق العشب.

 “لم تكن السماء تمطر في ذلك الوقت”.

لم تبد الرسائل الواردة من الرجل على موقع المواعدة جديدة بالنسبة لي، بحثت في خوازميات مشابهة، لكن لا شيء مؤكد.

لم أتوانَ عن مساعدتها فقد سارعتُ بالاتصال بالشرطة فور معرفتي بموعدها الوشيك السابق لصراخها الذي أخبرني أنها تعرضت لاعتداء. ثم تلويت مختبئاً، حين مدّ الرجل يده الملطخة بالدماء للبحث عن هاتفها، فلم يجدني.

فكرتُ بتفعيل إنذار الاغتصاب، لكن نظرًا لمدون العلامات الأساسية، فقد فات الأوان بالفعل. لم ينطق الرجل إلا عبارة واحدة “هل أحببتِ ذلك؟” عبارة خُزّنت ست عشرة مرة في ذاكرتي. لكن لسوء الحظ، تم إخفاء هوية الشخص المستخدم لتلك العبارة، فقد غيرت هيلين الاسم حتى بات من الصعب وصولي إلى الاسم الأصلي.

لم تصلوا في الوقت المحدد، دعوني أعطيكم ما لدي من أدلة، ثم اذهبوا.

ابتعدوا عني!

تابعوا تحقيقاتكم.

من المحتمل أن يتم مسح معلوماتي وبيعي كجهازٍ مستعمل، أو تفكيكي إلى مجموعة من الأجزاء. أو لعلني سأبقى حبيس غرفة الأدلة كحال تلك المرأة المقتولة بلا حراك.

آسف، أنا في وضع مأساوي.

هاهو زر الطاقة سلموني لوضع السكون.

مع السلامة.

0
0