“مستوطنات” الشمال السوري التي تريد تركيا إنشاءها بعد تنفيذ عملية الحزام الأمني، لن تختلف كثيرًا عن “مستوطنات” الجنوب السوري التي صنعتها إسرائيل لليهود المستجلبين إلى الجولان أو فلسطين. فالسوريون الأردوغانيون الذين سيقطنون تلك المنطقة، سبق ورفعوا العلم التركي فوق مقراتهم وحاربوا أبناء جلدتهم تحت تلك الراية العثمانية، رغم تاريخ تركيا الاستعماري في قضم الأراضي السورية منذ سلخ كيليكيا ولواء اسكندرون إلى اليوم.
لم يخطىء أردوغان عندما سمّاها “المستوطنات”، فسلخ الانتماء عند أولئك وربطهم بالتابعية التركية، لن يقتصر على اتخاذ المواقف السياسية والعسكرية، بل سيمتد إلى اللغة والمناهج واستخدام العملة التركية، فماذا يبقى من الانتماء السوري عند “مستوطنين” يطمح أردوغان أن يلحقوا بسوريي اسكندرون وكيليكيا التي يسميها الأتراك “هاتاي” الذين لو خضعوا لاستفتاء حول الولاء سيختارون فيه تركيا على الأرجح، نظرًا لعامل التتريك طويل الأمد وبسبب وضع الوطن الذي يرثى له اقتصاديًا واجتماعيًا وصحيًّا وغذائيًّا وغير ذلك!
الأرض السورية تتناهبها “المستوطنات”، فالأميركيون في الجزيرة السورية التي يسمونها شرق الفرات، يعتمدون الأسلوب نفسه في تكريس الحكم الذاتي للأكراد، وفي إبقاء سيف “داعش” مسلطًا يمكن اللجوء إليه متى دعت الضرورة عبر الأسلوب نفسه من زرع “المستوطنات” المستحدثة للجهاديين، إلى سلخ هوية المواطنين السوريين الأكراد عن سوريتهم وجعلهم أكرادًا فقط!
ما يؤكد صحة التحليل السابق، هو الإصرار على الاعتداء المتكرر على موقع عين دارا الآرامي الأثري في عفرين، فقد دمرت تركيا وجماعاتها المعبد التاريخي في الموقع، وقامت بسرقة أسد عين دارا الذي يعود تاريخه إلى 1200 سنة قبل الميلاد، وكان ذلك جزءًا من خطة الاستيطان التي تهدف إلى محو الهوية السورية للأماكن والناس على حد سواء.
مجموع مساحة الأراضي السورية التي تم احتلالها من قبل تركيا تبلغ 9758 كيلومترًا مربعًا بُني عليها 95 مستوطنة بذريعة إعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى هذه المستوطنات، وسط ارتفاع كبير في الضحايا المدنيين عدا عن تدمير المستشفيات والمدارس إضافة لقطع إمدادات المياه عن أكثر من مليون إنسان.
ساهمت حكومة أردوغان بدعم منظمات إرهابية حيث أفرجت تركيا عن أحد المقاتلين المنتمين لـ “داعش” والذي هرب عائداً إلى سوريا، المقاتل الذي اسمه “أورهان موران” مسؤول عن تجنيد الأفراد لصالح “داعش” وتهريبهم للداخل السوري، في ذات النطاق قامت هذا العام بمساعدة داعش على إطلاق عدة الاف مقاتل تابع لـ”داعش” كانوا محتجزين في سجون “قسد” بمدينة الحسكة عبر مؤازرة جوية.
يحاول أردوغان تحقيق غايات سياسة أيضاً عبر استعمال السوريين في تركيا كورقة في الانتخابات القادمة. ويريد رئيس حزب التنمية والعدالة التخلص من ضغط الأحزاب المعارضة له التي تذرعت في الانتخابات الماضية بأن السوريين يمثلون عبئًا على الاقتصاد التركي بسبب صرف المساعدات (على الرغم أن أغلبها من الاتحاد الأوربي) وضغط العمالة السورية على السوق إضافة إلى النفقات التي تكبدها أردوغان في عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، وهل من طريقة أكثر فاعلية لصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية سوى القيام بحرب من أجل إنشاء حزام أمني يطوق كل المشاكل الداخلية التي يعاني منها أردوغان؟
طمعاً بالطاقة والمياه وليس لمحاربة الإرهاب
يواجه الداخل السوري أزمة طاقة حادة، النفط والغاز يعتبران مواد صعبة التأمين خصوصاً مع كون أغلب الحقول قابعة في شمال شرقي سوريا حيث تسيطر أميركا على المنطقة. في عام 2019 نشرت وزارة الدفاع الروسية صوراً لقوافل من الصهاريج النفطية التي يتم تهريبها من تلك المناطق تحت حماية أمريكية، حدث ذلك بعد عملية “نبع السلام” وانسحاب قوات “داعش” من المنطقة، قالت تقارير روسية بأن الأرباح التي تدرها هذه الآبار تتراوح بين 30 و 40 مليون دولار شهريًا تحت حراسة من شركات أمنية أمريكية خاصة.
المعركة التي تدور في سوريا أصبحت معركة طاقة وثروات أيضًا، حيث نرى أن الجزيرة السورية تحتوي على أغلب احتياط النفط السوري بنسبة 75%، ولعلَّ أهم المناطق التي تحتوي على النفط السوري هي الحقول الواقعة في شرق منطقة دير الزور، وأهمها حقل العمر الذي يعتبر أكبر حقول النفط في سوريا و”جفرة” و”الورد” و”عفراء” وغيرها يضاف إليها الحقول الواقعة في منطقتَي الرقة والحسكة.
تحتوي المنطقة أيضاً على ثروة مائية هائلة تتكون من 16 نهرًا مع روافدها، ويبرز بينها نهر الفرات بوصفه أكبر مصادر المياه وأهمها، إذ يشكل 97% (15 مليار متر مكعب) من إجمالي مصادر المياه الموجودة في البلاد.
الحكومة الأمريكية أصدرت منذ فترة قرارًا بإعفاء المناطق في شمال سوريا من العقوبات الاقتصادية بحجة “منح قسد فرصة لمحاربة داعش اقتصاديًا وإعطاء فرص عادلة للأشخاص الذين لا يقبعون في مناطق العقوبات”، لكن ذلك لم يكن يهدف في واقع الأمر سوى إلى إنشاء “مستوطنات” تتفق في مصباتها النهائية مع مستوطنات الشمال التي تنشئها تركيا، و”مستوطنات” الجنوب التي أنشأتها إسرائيل!
العملية العسكرية التركية من أجل الحزام الأمني، تنتظر الضوء الأخضر الأميركي والروسي، ورغم التصريحات الأميركية المعارضة للعملية، إلا أن أردوغان يضمن الموافقة في النهاية، لأن واشنطن لن تضحي بعلاقاتها مع أنقرا كي تكسب “قسد” ويمكن الوصول إلى اتفاق حول نقاط الخلاف بين الطرفين، أما بالنسبة للجانب الروسي، فكل الخشية أن يتكرر ما حصل في عملية “درع الفرات” حيث قالت صحيفة حرييت التركية إن أردوغان اجتمع مع بوتين وأعلمه بنية الغزو العسكري، فقال له بوتين: “سنعارض أمام الكاميرات، لكننا لن نتدخل على الأرض.”
ورغم نأن “قسد” أبدت استعداداً للتعاون مع الحكومة السورية في آخر بيان لها، إلا أن تجارب التنسيق السابقة لا توحي بالثقة معها، خاصة مع التدخل الأميركي الذي كان يفرض على “قسد” القطيعة مع الحكومة وكانت تلك تستجيب للأسف!