بكّروا بالموت.. تأخّروا بالإبداع!

Share

مات جبران خليل جبران عن واحد وخمسين عاماً، وكان في جعبته عشرات المؤلفات من قصص وأشعار ولوحات.

قُتل أنطون سعاده، وهو في الخامسة والأربعين من العمر، وكان في رصيده عدة مؤلفات عملت انعطافاً في الفلسفة والأدب والسياسة.

مات بدر شاكر السياب، ولم يبلغ الأربعين عاماً. لكنه افتتح عهد القصيدة الحديثة.

مات إبراهيم طوقان، وعمره ستة وثلاثون سنة، لكن شعره مازال راسخاً في الذاكرة، وفي مقدمته قصيدة “موطني”.

قُتل غسان كنفاني وعمره ستة وثلاثون عاماً، وترك سبعة عشر كتاباً في الرواية والمسرحية والقصة. وتُرجمت أعماله إلى أكثر من خمس عشرة لغة عالمية.

اليوم، ساءت الجينات السياسية والثقافية والحكومية عند أبناء الأمة التي اخترعت الحرف. فبات على الإنسان أن يعيش مئتي عام، ليتمكن من تسديد الفواتير والقروض والجمعيات، على أمل أن يؤمّن لقمة العيش الكريم. وإذا أسعفته الظروف وحسن الحظ، فرّغ بعض الوقت للعمل الإبداعي الذي يقول الناس إنه لا يطعم خبزاً.

إبداع ما بعد الخمسين، أصبح ظاهرة في المجتمعات العربية، فأحفاد طرفة بن العبد، الذي كتب معلقته الشهيرة قبل أن يموت وعمره عشرون عاماً، أصبح مخّهم سميكاً لا يستوعب، بسبب سياسات التجهيل والتدجين والتجويع. وإذا ما تمكن أحدهم من ترك بصمةٍ قبل أن “يمشي خشبه” ويذهب إلى جوار ربه راضياً مرضياً، يكون من النادرين الذين لابد أن تحتفي بهم الأمة، لأنه الدليل الأخير على أنها مازالت على قيد الحياة.

أحدٌ ما، لعب بعدّاد العمر، يا جماعة، حتى أصبح البشر يشهقون فلا يلحقون، وجلّ ما يهمهم هو النجاة من الجلطات والملاحقات والتضييق في لقمة العيش. والأهم من ذلك كله، هو انهيار القيم والرموز والحركات التي كان يعوّل عليها في قيادة قطار التغيير، أو المشاركة بعربة أو عربتين منه على أقل تقدير!

يقول البعض إن موت المبدعين المبكر، دليل على سوء الأوضاع في زمانهم، فأولئك الذين كانت عقولهم “بتوزن بلد”، لم يتحملوا ما يحصل في بلدانهم من صفاقات وتدليس واستغباء. وهذا صحيح مبدئياً، لكن تمكّنهم من قول جزء مما كانوا يودّون قوله، يعتبر فرقاً عظيماً مع زماننا الذي ينخره السوس في العظم واللبّ والأحشاء، ويُجبر الناس فيه أن يموتوا صمتاً، مكرهين أو راضين!

ذكرتني دراسة عن الموت المبكر للمبدعين، بأصحاب الإبداع المتأخر منهم، وهم الأغلبية في هذا العصر. ألا يبدو المبدع الميت مبكراً، شبيهاً بالمبدع صاحب الإبداع المتأخر، إذا ما أخذنا المسألة من ناحية سبب التبكير بالموت والتأخر بالإبداع؟

اختلفت جينات الشعوب، أيها السادة، حتى القضايا العظيمة أصبحت مدعاة للسخرية، بسبب الشرشحة التي تعرضت لها من قبل ولاة الأمر في السياسة والاقتصاد والثقافة. أولئك الذين فرّغوا العناوين الكبيرة من محتواها، يتحملون سبب تأخّرنا بالإبداع، وتبكيرنا بالموت، وهم في ذلك، فعلوا ما لم يفعله الأعداء.. عرفتوا كيف؟

0
0