المهاجرون… والتعددية وسقف الهوية القومية

Share

بين الحين والآخر تُتحفنا وسائل التواصل الاجتماعي بفيديوهات، بعضها محترف وبعضها من إعداد هواة يستغلون الحرية المباحة التي أتاحتها لنا تكنولوجيا الاتصالات. وقد لفت نظري نوع من الفيديوهات يصوّر إقدام موظفي وموظفات الرعاية الاجتماعية، يدعمهم رجال الشرطة في بلدان أوروبية، على “نزع” بعض الأطفال من عوائلهم “المسلمة” تنفيذاً لقرارات اتخذتها السلطات لأسباب متنوعة، يحرص معدو الفيديوهات على تجاهلها أو تحويرها خدمة لأغراضهم الإعلامية.

ويترافق التصوير مع تعليقات يدلي بها أشخاص مجهولون يتهمون الحكومات الأوروبية بانتهاج سياسة تهدف إلى إبعاد أطفال المهاجرين المسلمين عن أجوائهم العائلية والدينية، ووضعهم تحت رعاية الدولة حيث يتلقون “ثقافة مغايرة لثقافة أهاليهم”. ولا بد من الإشارة إلى أن ملايين المهاجرين من العالمين العربي والإسلامي استقروا في أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية، بينهم عشرات الألوف من الأطفال المولودين في المغتربات أو الذين جاءوا إليها صغاراً. إن موجة الهجرة سنة 2015 بلغت لوحدها ثلاثة ملايين شخص كانوا يتطلعون إلى “الأرض الموعودة” في الشمال!

أغلب الظن أن هذه الفيديوهات تُعد وتُصوّر وتُوزع وفق خطة إعلامية هادفة. فهي تعرض أحداثاً واقعية في السويد وألمانيا والدنمارك وفرنسا… وغيرها. ويكثر نشرها على نطاق واسع عندما تتفجّر توترات سياسية واجتماعية لها علاقة بمفهوم “صراع الحضارات بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي”. وهكذا تنوعت الفيديوهات خلال الأسابيع الماضية في سياق ردات الفعل على إحراق المصحف في السويد والدنمارك. ومن الواضح أنها جزء من التوظيف السياسي في مواجهة المجتمع الغربي وثقافته.

من المرجح أن غالبية هذه التركيبات مصطنعة، أو أدخل عليها تحوير جذري بحيث فقدت مصداقيتها ومرجعيتها. والحقيقة أن هذا النوعية ليست موضع اهتمامنا في هذه المقالة، فهي لا تستحق إضاعة الوقت على خزعبلاتها. وإنما نريد أن نناقش بعض الفيديوهات التي تتضمن أحداثاً فعلية حيث أقدمت السلطات على “نزع” الأطفال من عوائلهم المسلمة ووضعتهم في الرعاية المؤقتة ريثما تتم معالجة المشاكل الاجتماعية التي استدعت تدخل الدولة.

يجب أن نوضح، أولاً، أننا تأكدنا من بعض القضايا المذكورة في الفيديوهات عن طريق شبكة رفقائنا القوميين الاجتماعيين المنتشرين في أنحاء أوروبا. والصورة التي تكوّنت لدينا تحتاج إلى دراسة اجتماعية نفسية معمقة ليست هذه الأسطر بقادرة على إيفائها حقها. لكن هناك مسائل، ظهرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تستحق أن نقف عندها لنتمعن في أبعادها التي ستحدد مستقبل العلاقات بين سكان البلاد الأصليين من جهة والمهاجرين الحاملين ميراثاً ثقافياً مختلفاً من جهة أخرى. وسنكتفي بحادثتين مؤكدتين قدمتهما الفيديوهات بطريقة محرّفة ومشوّهة.

الحادثة الأولى: لاحظت إحدى المعلمات وجود ندوب ورضوض على جسد طفل (أجنبي) في الثامنة من العمر، فأبلغت دائرة الرعاية الاجتماعية. وبعد زيارات وتحقيقات ومقابلات، تبيّن أن الأب العاطل عن العمل يستخدم العنف الجسدي لـ”تأديب” ابنه. وهو لا يجد في ذلك حرجاً لأن أساليب “التربية” في البلاد التي جاء منها تُبيح ضرب الأطفال لتقويم “اعوجاجهم”! وعلى هذا الأساس قررت السلطات إبعاد الطفل عن هذا الجو، بانتظار معالجة الملف جذرياً. كل ذلك والأهل يستغربون التدخل الرسمي في شأن عائلي خاص! ويُنظر إلى هذه الحادثة بوصفها إجراءً تعليمياً تربوياً اجتماعياً ولا علاقة لها بكون العائلة مسلمة كما ادعى الفيديو!

الحادثة الثانية: فتاة (أجنبية) في الحادية عشرة من العمر، بدأت تتغيب عن المدرسة من دون عذر شرعي. حاولت المديرة الاتصال بالعائلة للإطمئنان ومعرفة السبب، لكنها واجهت حائطاً صلداً. فقدّمت شكوى إلى دائرة الرعاية الاجتماعية. ونختصر التفاصيل لنقول إن المفتشين الاجتماعيين إكتشفوا أن الأب لا يؤمن بتعليم الفتيات، ويعتقد بأن سن الحادية عشرة مناسب جداً لتزويج ابنته! وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للسلطات إلا أن تتدخل لـ”حماية” الفتاة من مصيرها المجهول.

تختلط في هاتين الحادثتين العناصر الاجتماعية والتربوية والدينية، والعنصر الأخير هو الذي يركز عليه المرّوجون لتهمة “خطف أولاد المسلمين” في الدول الغربية. قد لا تعجبنا المناهج التربوية في أوروبا، وقد نرفض بعض التيارات الاجتماعية والأخلاقية السائدة هناك. غير أنه يتوجب علينا أن ندرك أننا نتعامل مع مجتمعات حققت وعيها القومي، وأقامت دولها وفق عقد اجتماعي قومي واضح يلتزم به الجميع. وقد بلغت تلك المجتمعات حداً عالياً من الثقة بالنفس بحيث لم تعد تخشى على قيمها ومثلها، بل أخذت تنادي بمبدأ التعددية الثقافية كدليل على رسوخ هويتها الحضارية.

والتعددية المطروحة في الغرب الأوروبي ـ الأميركي تتيح مجالات معينة محدودة، وتُفسح حيزاً معقولاً لنشاطات الثقافات الأخرى التي يحملها المهاجرون، أو على الأقل الجيل الأول منهم. إذ أن رهان المجتمع ذي البنيان الراسخ يكون دائماً على استيعاب الجيلين الثاني والثالث! أما الجيل الأول فيمكنه “ممارسة” التعددية كما تحددها الدولة، لكنها التعددية المحكومة بسقف عنوانه “الهوية القومية”. ففي لحظة شعور الدولة بخرق، أو محاولة خرق، لهذا السقف بقيمه وعاداته وتقاليده يأتي الحل قاطعاً لصالح المتحد القومي المتجانس.

0
0