عربوفوبيا …فوات ثقافي وإنساني- نجيب نصير

نجيب نصير

Share

رويداً، وأمام أعيننا، يتولد مصطلح جديد دون أن تكتمل ملامحه المعرفية حتى الآن. هذا المصطلح هو “العربوفوبيا”، الذي لا يتوازى أو يتقاطع معرفياً مع “ألإسلاموفوبيا”، إلا إذا تناولناه نحن سكان هذا العالم العربي ومارسنا معه ما مارسناه مع “الإسلاموفوبيا”. فقد تحوّل هذا المصطلح الحداثي، الذي يراد به عدم التعميم، والنظر الى الإرهاب بعين معرفية دون الإصابة بالرهاب من الإسلام، تحول بين أيدينا إلى تهمة نرشق بها الآخر دون تبيّن أو دراسة لمعرفة ما هي الوقائع التاريخية، وكذلك المنشأ الأساسي لهذا النوع من الفوبيات. وهذا يحتاج الى شجاعة الباحث المشخص للعلل، وليس الى فهلوية المحامي الذي يدافع بما طالت يده من حجج،. إننا نحذر من احتمال نمو مصطلح “العربوفوبيا” ليصبح كما ” الإسلاموفوبيا”، مصدراً للشكوى والنقيق.

لا تأتي المصطلحات من الفضاء، بل من أداء إنساني يستجلب موقفاً أو حتى ردة فعل، تشكل ظاهرة. وهذه الظاهرة لا تحتاج إلى الإعلام والدعاية للإحاطة بها، بل تحتاج الى المعرفة والتحليل والإقرار بالحوادث التي أدت الى نشوئها أو نشؤ سواها والإصطلاح عليها بتسمية. كل هذا في سبيل معالجة الظاهرة ومحوها، أو في سبيل تدعيمها وإطلاقها، خصوصاً أننا نعرف أن لكل ظاهرة سلوكية خلفية ثقافية، حسب الزمان والمكان، وايضاً حسب نوع هذه الثقافة وما إذا كانت تنتمي الى الجهالة أو المعرفة حسب وعيها للمصالح .

على الرغم من المذابح الإستعمارية البغيضة منذ إكتشاف أمريكا وأفريقيا وأستراليا، مروراً أو حتى تتويجاً بمذابح هيروشيما وناغازاكي ( بإستثناء النازية التي خسرت الحرب) لم تحصل فوبيات مشابهة للتي نتناولها الآن بل العكس. لقد ذهب الضحايا ليعيشوا في كنف الذباحين كمهاجرين أو لاجئين أو نازحين، سعيدين تماماً بوصولهم الى بلدان الشبع والمنعة، دون فوبيات أو إحتراس، إلا في حالات الغيتو التي تفرض وجوداً غير مشبع بثقافة المجتمع. وهنا لابد من العودة  المعرفية الصريحة الى مصطلح  الإسلاموفوبيا والتعامل معه بمعرفية إختصاصية باردة، قبل إكتمال ولادة مصطلح “العربوفوبيا” وتفعيله والإبتلاء بمفاعيله ومنعكساته، وحماقة متدبريه، وجشع مديري أزمته. وهنا علينا الإطلاع على الإسلاموفوبيا نفسها كحدث وليس المصطلح فقط، كما علينا مقارنته بالمولود الجديد العربوفوبيا وأيضاً كحدث بدءً بالإعتداء على السوريين في تركيا وتبلوره مبدئياً مع ضرب العمال العرب في كازاخستان، إذ لا نعرف على ما سوف يرسو عليه لاحقا .

لا بد من النظر في مسيرة الإسلاموفوبيا، بالمقارنة بما هو متوقع لمسيرة العربوفوبيا المحدثة، وهما مسألتان متولدتان من القصور الثقافي الذاتي في ممارسة القضية المجتمعية وقيمها العليا، حيث ولدتا من ذات الحيز الجغرافي/ البيئي، وهنا لا قيمة حقيقية للمكان /البيئة، بسبب الأداء الثقافي القاصر معرفياً، حيث يتحول هذا القصور مولداً لذاته، بالإضافة الى كونه هو نفسه غاية إستعمارية تسعى الأمم لإستغلالها بعداء، أو تنافس، أو رضى. ويتجلى هذا الأداء القاصر في سلوكين متناقضين، الأول: في تحديد الغاية، وهو اللحاق بركب الأمم الناهضة من أجل حيازة الشبع والمنعة. والثاني: هو رفض الأداءات الثقافية المجربة للأمم الناهضة، بما في ذلك منجزات علم الاجتماع الذي هو في صلب بناء المجتمع المولد للدولة . في هذه الباحة الخلفية يقع الفشل على الرغم من كل الإدعاءات “النهضوية”، ومن هذه الباحة أيضاً تظهر نتائج هذا القصور، ليتحول الأداء الثقافي الجمعي إلى أداء فصامي، موافق على التطلعات، ورافض للإستحقاقات، حيث ظهرت ردود أفعاله على التحديات المعاصرة، عبثية، ومتذاكية،بل ومهلهلة معرفياً، تسخر من كل إنجاز معرفي وتتقبل نتائجه صاغرة.

من هنا تبدو الأسلاموفوبيا، على الرغم من إساءة تعريف المصطلح، وإساءة إستخدامه تفكيرياً بوصفه الخوف من الإسلام، وبالتالي نسج علاقة تكارهية معه، مما يشكل مفاجأة واستغراب للكثيرين من صناع المنتجات الثقافية لهذه الصفة، دون النظر  معرفياً إلى هذه الظاهرة التي نشأت بين ظهرانينا ومناقشتها بصراحة معرفية باردة، خصوصاً ونحن أمام ولادة مصطلح ” العربوفوبيا” إبتداءً من حدثين واضحين متداخلين في معنييهما مع الإسلاموفوبيا،وهما الإعتداء على “العرب” في تركيا وكزاخستان، البلدان اللذان لا يمكن اتهامها بممارسة الإسلاموفوبيا،بسبب إعتناق أغلبية سكان البلدين الأسلام ديناً، وفي هذا فشل لعقلية الفسططة التي تقسم العالم الى فسطاطين، وعلى الرغم من ذلك تبقى العربوفوبيا متماثلة مع الإسلاموفوبيا، من ناحية الأسباب المؤسسة لهما، وهي قصور الأداء الثقافي المجتمعي، التي تولد قصوراً في حماية الناس والجماعات.

لا يمكننا جعل الإسلاموفوبيا، ومن ثم العربوفوبيا، نتاجاً خارجياً أو “غربياً” صرفاً، فقد ظهرتا بين ظهرانينا وليس في “الغرب” كما يعتقد الكثيرون. فالمسألتين ولدتا من رحم الأداء الداخلي لتجمعاتنا السكانية، التي لم تمنع ولربما باركت جلّ الأداءات المولدة للفوبيات. فالفوبيا ليست ردة فعل خاطئة أو صحيحة تجاه فعل سلبي يولد الفزع. والمفزوع هو من يقدّر ردة الفعل على الذي أفزعه. فملايين الأرمن والسريان الناجين من مجازر العثمانيين ومن ثم الأتراك، لا يمكن إتهامهم بخطأ التقدير، ولا يمكن لأحد الطلب اليهم تغيير ما هم عليه من فوبيا قبل إنصافهم، مع العلم أن منقذيهم كانوا من المسلمين أيضاً. وهذا التغيير المطلوب ليس بممكن قبل تعديل الأداء الثقافي تجاه جميع المختلفين عبر تأسيس المجتمع المعاصر القائم على المساواة والذي جربته الأمم الناهضة ونجحت. وحتى يأتي ذلك الوقت لا يمكن إتهام هؤلاء بالأسلاموفوبيا. فهم يخافون فعلاً من الإسلام بناء على تجربتهم الواقعية.

ومع وصولنا الى الزمن الحالي عربيا، تحولت الإسلاموفوبيا ( والمسيحيوفوبيا في بعض المناطق ) مع كل وضوحها، الى طائفية مقننة وممثلة في البرلمانات والحكومات، فعلام الشكوى من الإسلاموفوبيا “الغربية”؟ فالعشرية السوداء في الجزائر لم تقم بها كائنات فضائية، وكذا إنفصال ثلث السودان، ولا الذي يحصل من تقتيل طائفي ومذهبي في العراق والشام واليمن إلخ. إنها تجمعات سكانية ضلت الطريق الى المجتمع، وها هي تدفع الأثمان المغلظة، بدلا من دفع استحقاقات التحول الى المساواة، التي تخلو منها كل ديانات الكون. لقد قامت الأمم الناهضة بجعل المساواة (المواطنة)، إصلاحاً دينياً تأسيسياً يجعل الناس متساوين في الدولة الحديثة، بينما سعى رواد “النهضة” العربية الى تجسير هوة العدالة (وليس المساواة) لتصبح أكثر لطفاً في التمييز. ولنا في الأفغاني ومحمد عبدو مثالاً في هذا التجسير من خلال شعار (تجديد الخطاب الديني) ليس إلا، الذي ظهر ومورس كفهلوانية ثقافية، توارب المعرفة وتحافظ على فسطاطية الجماعات في الكرة الأرضية. من هذه الفسطاطية تكونت حراكات التمييز، اللطيف منها والعنيف، عبر التغلغل ثقافياً في البنى الاجتماعية، معلنة أن الإختلاف مع الآخر ذريعة لإجتثاثه .

من ذات البنى الاجتماعية المذكورة سوف تتشكل ردة الفعل على (العربوفوبيا) القادمة. فالمنظر الإنساني لجميع الدول العربية الآن، منظر مخز، فقد أنكر”العرب” على أنفسهم جميع الحقوق الإنسانية البدهية منها، والأصلية والطبيعية، وحتى تلك الحقوق البشرية التي وقعت عليها هاتيك الدول كإتفاقيات ومواثيق دولية أنكرتها، بناء على خصوصيات مخصوصة، واستثناءات غرائبية، حتى بات السؤال الاستنكاري الأوسع تداولاً، هو هل تستحق هذه الشعوب الديموقراطية أو حقوق الإنسان؟!!، حيث يصدّر”العربي” فوبياه الخاصة، قبل أن يخترعها غيره، إذ ماذا يعني الإعتداء الكازاخستاني أو التركي أو غيرهما على “العربي” ؟! فهو وبالأساس معتدىً عليه في بلده دون أية غضاضة تذكر، وهذا ما يعيدنا فوراً الى الفوات المجتمعي الحديث الذي ينزع عن الإنسان صفته الإنسانية الحقوقية، ويجعله مستباحاً، وهذه الإستباحة هي ذريعة الإعتداء. لقد قُصفت صربيا بأضعاف ما قصفت به العراق، ولكن لم تظهر عندهم حادثة مشابه لحادثة سجن أبو غريب المهينة؟! . إذاً لماذا لا تكون هناك “عربوفوبيا” قوامها من هؤلاء المنتهكون، الذين لا يعرفون عن قيمة التحضر الاجتماعي شيئاً، ولا يقيمون له وزناً، ليصبح من السهل إنتهاكهم بغض النظر إذا كانوا من عصابات الشوارع، أو من المنتجين، فعلى “العرب” أن يدفعوا ثمن فواتهم هذا، على الرغم من أن من بقي في البلاد يدفع هذا الثمن أضعافاً مضاعفة.

“الإسلاموفوبيا” وكذلك ” العربوفوبيا” هي صناعة محلية، الخوف من الآخر، الطائفية، المذهبية، الإستبداد، المافيوية، المليشياوية ..إلخ، كلها عن “مؤسسات” شبحية متعاكسة مع مفهوم المؤسسات المنبثقة من دول حقيقية ناتجة عن المعرفة المعاصرة، تقوم بتربية إنسان أشوه يصلح ضحية أكثر مما يصلح كائن ذو كرامة .

0
0