هبط الخط البياني للدراما السورية خلال الحرب كمّاً ونوعاً. وظهرت المسلسلات السورية تتهالك بعد أن تمكنت في فترات سابقة من دخول معظم البيوت العربية بلا استئذان، حتى إنها ضاهت الدراما المصرية وبشّرت بنوع جديد من الفن مختلف في الشكل والمضمون. كما أنتجت عدداً كبيراً من النجوم والمخرجين ومؤلفي السيناريو والفنيين. إلى الآن يبدو الأمر طبيعياً، لكن الانقسام السياسي لعب دوره لاحقاً مع تفاقم الأحداث، وانقسم الفنانون تبعاً لمواقفهم المؤيدة والمعارضة، فهاجر قسم كبير منهم إلى الخارج، وبدأت عمليات تخوين واتهامات كثيرة لم ينج منها أحد، كما انقسمت شركات الإنتاج وقاطعت معظم المحطات العربية، المسلسلات السورية بناء على التصنيف السياسي والموقف من الحرب. لتظهر معاناة من نوع آخر يتعلق معظمها بتوفر منابر عرض الأعمال، وعدم توفر الميزانيات الكافية لانتاج المسلسلات، إضافة إلى ممارسة شركات الإنتاج ضغوطات وتدخلات على الفنانين من أجل حرف الأعمال عن مسارها أو تحميلها مقولات لا تحتملها أو فرض ممثلين عرباً للقيام بأدوار البطولة، وفي كثير من الأحيان تبني سيناريوهات معينة واستقدام الممثلين الذين تراهم مناسبين لتأديتها، بحيث أصبح الممثل عبارة عن موظف لدى تلك الشركات، فغابت الرسالة والمشاريع الفكرية والاجتماعية عن معظم الأعمال، وصرنا نشاهد نجوماً سوريين في أعمال مصرية يتحدثون باللهجة الصعيدية، أو نشاهد مسلسلات هجينة لا تمتلك شخصية مميزة، إلى درجة أن النقاد قالوا إن هناك محاولة لسلخ الهوية السورية من الدراما وإلباسها هوية أخرى!
لقد تخلفت الدراما السورية عن المصرية نتيجة هذه الظروف، وظهرت حالة النهوض التي حصلت قبل الحرب، وكأنها مجرد فورة عابرة انتهت مع أول مواجهة حقيقية مع الأسئلة الخطيرة التي صعدت منذ بداية الأحداث ويتعلق معظمها بالهوية والموقف من الدين وعلاقته بالمجتمع ومكانة المرأة والحرية، بل إن المسلسلات التاريخية التي تناولت فترات محددة من تاريخ دمشق، أثارت احتجاجات بين المحافظين والمتنورين، وكل منهما كان يدافع عن لون معين تتصف به الشام ويرفض أن يحمل العمل الدرامي أي مشهد يصور واقعاً مختلفاً عن ذلك اللون.
غياب المشروع الفكري وانعدام تقبل الرأي الآخر ومناقشته بشكل موضوعي، أدى للكثير من الشقاق، فبات بعض الفنانين السوريين غير قادرين على زيارة بعض الدول العربية نتيجة مواقفهم تلك، كما أصبح عدد آخر غير قادر على العودة إلى دمشق بسبب مواقف معاكسة. والنتيجة أن الدراما السورية تراجعت على صعيد جودة الإنتاج وعلى صعيد كميته، وهو ما دفع بعض النجوم إلى المشاركة في تقديم برامج التسالي على المحطات المحلية والعربية بهدف تأمين مصروفهم اليومي، فأسيء كثيراً للأسماء التي كان التعويل عليها كبيراً في مرحلة معينة. لم تستفد الإدارات من التجربة المصرية التي بقيت على زخمها في مناقشة أسئلة خطيرة عن الإرهاب والدين والفساد والشذوذ وغير ذلك من المحرمات، رغم الأحداث التي شهدتها مصر ورغم الصراع مع التيار السلفي وفترة الاضطراب السياسي، وذلك مرده إلى بنية القطاع الخاص القوية هناك مقابل الهشاشة في القطاع الخاص السوري، أما على الصعيد الرسمي، فإن المؤسسات المصرية التابعة للدولة استمرت في عملها دون شروخ عمودية في فئة النجوم، على عكس ما حصل من انقسام في الوسط الفني السوري.
يتفق الجميع على أن الدراما السورية تمتعت بسقوف عالية في تناول الأفكار، كما أنها حظيت بأجور خيالية مقارنة بجميع الفنون الأخرى، لكن ما حصل من انتعاش هبط فجأة إلى مرحلة التراجع بسبب عدم وجود المؤسسات المسؤولة والقادرة على استثمار كل ذلك وتحويله إلى نشاط سياحي وثقافي يمكن أن يدرّ الكثير من الأموال على البلد. ولم يتم توجيه هذا الازدهار في العمل كي يتحول إلى مشروع تنويري يعالج الأمراض الاجتماعية الكامنة التي تتفجر كل عقدين أو ثلاثة لتصبح حرباً ضروساً بين جميع الأطراف. لقد كان بالإمكان الاستفادة كثيراً من انتعاش الدراما، لكن محدودية المؤسسات وعدم تمتعها الرؤى الاستراتيجية، جعل الإخفاق نتيجة طبيعية. فالمؤسسات بدلاً من أن حكماً تحولت إلى طرف، ولو توفرت محلياً البيئات الحاضنة لكان بالإمكان تكوين حالة فريدة على الصعيد الثقافي السوري والعربي.
منذ أيام، أقيمت ورشة عمل في فندق الشام بدمشق تحت عنوان “الدراما السورية.. صناعة فكر ومسؤولية مجتمعية” حضرها رئيس مجلس الوزراء ووزير الإعلام وعدد من الفنانين والعاملين في المجال الدرامي من مخرجين ومؤلفين وتقنيين. ويستطيع المتابع أن يستنتج أن المقصود “بالمسؤولية المجتمعية” هو الخضوع لمطالب الرقابة ومراعاة التوجه العام في مناقشة القضايا الإشكالية، وليس ممارسة الدور التنويري أو التوعوي أو استعراض معظم الآراء تجاه هذه القضية أو تلك كنوع من الحوار ومشروعية الآخر في الإدلاء برأيه. وتأتي هذه الورشة بعد أن أثارت بعض المسلسلات السورية المنتجة في الموسم الماضي جدلاً واسعاً أدى إلى اتهام بعضها بالخيانة مثل مسلسل “كسر عضم” أو مسلسلات أخرى عرضت مشهد “القبلة” بين عاشقين. وهو ما يظهر أن الاتجاه المؤسساتي الرسمي ما زال على مواقفه في موضوع تحديد المسار المسبق للدراما وإلزامها بمراعاة التيار الديني المحافظ الذي احتج على عدة قضايا اعتبرها فاضحة ومخلة بالآداب العامة مثل نحت تمثال عشتار في حدائق دمشق!
المشكلة غياب المشروع الفكري، والسطوة التي تمارسها المؤسسات على الفنون، ولو أن تلك المؤسسات تركت العملية التطورية للفنون تسير وفق نموها الطبيعي، لكان من الممكن أن تحصل تفاعلات إيجابية نتيجة الحوار بين المحافظين المتشددين من جهة والمنفتحين المطالبين بالحداثة من جهة ثانية. اللافت في هذا الأمر أن الدراما السورية التي قدمت أعمالاً خالدة مثل “التغريبة الفلسطينية” و”غزلان في وادي الذئاب” و”ليس سراباً”، كما سبق أن قدمت منذ عام 1960 أعمالا ملتزمة ومنفتحة لا تديّن فيها ولا انغلاق، مطالبة اليوم بمراعاة تيار محافظ لأنه الأغلبية، وهذه النقطة لا تتعلق بالدراما فقط بل تطال جميع أنواع الفنون.
يقول الفنانون السوريون الجادون أصحاب المشاريع الثقافية، إننا نقبل بحضور جميع الأفكار في المشهد الدرامي، فمن حق كل واحد أن يقول رأيه شرط عدم الاستئثار والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، دعونا نعطي المتنورين الحقوق نفسها التي يأخذها المحافظون، ولنترك المجتمع يحكم!