ملفات ساخنة حضرت في قمة طهران التي تفرعت إلى قمم ثنائية جانبية عقدها الرؤساء الثلاثة تبعاً للقضايا المتعلقة بروسيا وإيران أو بإيران وتركيا، وروسيا وتركيا. ورغم أن النتائج المنتظرة على صعيد الملف السوري لم تكن كما يشتهي الإيراني والروسي، إلا أن الطرفين كبحا جماح العملية التركية في الشمال السوري على الأقل مؤقتًا، عبر التأكيد على مبادئ سبق واتفق عليها الجميع في لقاءات سابقة ومنها وحدة البلاد السورية وعدم مشروعية الحكم الذاتي لأي كان بالإضافة إلى ضمان الأمن القومي لجميع الدول الحدودية وضرورة محاربة الإرهاب. عدم النجاح في الوصول إلى اتفاق كامل في هذا الشأن تبين بعد القمة مباشرة عندما ظهر الجولاني على شاشات التلفزيون ليتبعه بقصف لإحدى الكنائس في مدينة السقيلبية في ريف حماه، وما ما يؤكد الامتعاض التركي من المعارضة الروسية الإيرانية للعملية العسكرية في الشمال السوري.
تشابك الملفات يفرض على جميع الأطراف التقاط الأنفاس والتروي في هذه المرحلة التي تشهد فيها الحرب الأوكرانية تصاعدًا إلى جانب حرب القمح والحصار الاقتصادي المفروض على روسيا وإيران حيث تبرز هذه العناوين حاجة الدول الثلاث إلى صيغة تنظم تلك الملفات ضمن الحد الأدنى من الخسائر.
بالطبع، ستكون إسرائيل قلقة من التقارب الروسي الإيراني، خاصة في موضوع تصدير مئات المسيرات الإيرانية إلى روسيا لاستخدامها في الحرب الأوكرانية، فهذه الصفقة لن تقوي العلاقات بين موسكو وطهران فقط، بل تدل على التقدم الإيراني في الصناعات الحربية الذي يخولها تصدير المسيرات لبلد متقدم مثل روسيا، وهو ما يعني صعوبة المواجهة القادمة إذا ما نشبت الحرب ضد إيران. في كل هذا، تبدو موسكو مرتاحة أكثر من الولايات المتحدة التي استبق رئيسها بايدن القمة بزيارة إلى كيان الاحتلال والسعودية بهدف زيادة انتاج النفط المصدر للغرب عوضًا عن النفط والغاز الروسي. في هذه البانوراما المتشابكة، تبدو الحرب في أوكرانيا هي المتحكم بمدى التقدم في تلك الملفات، فكل تقدم روسي على الأرض، سيقابله بالتأكيد برود سعودي تجاه أميركا وليونة تركية مع روسيا وإيران.
المعلومات تقول إن بايدن لم ينجح في الحصول على مبتغاه من زيارة السعودية، فمحمد بن سلمان لم يكن بانتظاره في المطار كما جرت العادة، في حين أصر بايدن على إبقاء موضوع مقتل الخاشقجي سيفًا مسلطًا على المملكة التي سماها بالمنبوذة سابقًا، وهذا الأمر يفسر تذبذب السعودية في مواقفها تجاه إيران بين التطبيل للحرب والترحيب بالحوار، وذلك انسجامًا مع التطورات التي تحدث على الأرض دوليًا ومحليًا.
يمكن رؤية القمة كرد على زيارة بايدن الأخيرة للشرق الأوسط وإسرائيل، وللتذكير فإن جولة بايدن اختتمت بالفشل حيث لم ينجح بإقناع الدول العربية بإنشاء حلف ناتو عربي ولم يستطع حثّ السعودية على زيادة انتاج النفط كي يرضي الناخبين الأمريكيين وعلاوةً على ذلك لم يستقبله الأمير السعودي بن سلمان بشكل شخصي، كل ذلك ينمّ عن موقف ضعف من الجهة الأمريكية يقابله خطاب روسي-إيراني اتسم بالقوة، ما يزيد صحة التوقعات بتغيير موازين القوى في المنطقة هي العلاقة بين روسيا وإيران التي تطورت بسرعة كبيرة خلال الفترة الماضية، ففي السابق كانت روسيا حذرة بالتعامل مع إيران كي لا تثير حفيظة إسرائيل ولكن بعد توضيح حكومة الاحتلال موقفها المعارض للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تغيير موقف روسيا من إيران، إيران اليوم تمثل حليف قوي لروسيا سواء اقتصاديًا أو عسكريًا فمنذ بضعة أيام وقعت إيران صفقة طاقة ضخمة مع شركة “غازبروم” الروسية بقيمة 40 مليار دولار ردًا على العقوبات الغربية ضد البلدين، إضافة لذلك بدأت روسيا التفاوض مع إيران للحصول على دفعة من الطائرات المسيرة لاستخدامها في أوكرانيا وهذا أيضًا رد على التسليح الغربي لأوكرانيا، الآن يتخذ الصراع الروسي الإيراني مع الغرب نمطاً واضحاً وهو فعل يليه رد فعل، ولكن هل يمكن أن يتسارع الإيقاع؟
يتساءل البعض من سيشغل الفراغ العسكري إذا اضطرت روسيا لسحب بعض من قواتها نحو جبهة أوكرانيا؟ فالقوات الإيرانية هي المرشحة للعب هذا الدور، وهو ما يشكل قلقًا أكبر بالنسبة لإسرائيل خصوصًا مع زيادة حدة التصعيد والتلويح بالحرب الوشيكة بين الطرفين. لكن ارتباط الجبهتين الأوكرانية والسورية سيدفع روسيا للتمسك بالمواقع الاستراتيجية في سوريا، ولن تهتم موسكو بالقلق الإسرائيلي بعدما منيت بخيبة أمل من موقف إسرائيل تجاهها في الحرب الأوكرانية، وكان آخر ما يثبت ذلك هو إغلاق مقر الوكالة اليهودية في موسكو الذي اعتبر مؤشرًا لتدهور كبير سياسي ودبلوماسي قد يصل إلى منع إسرائيل من من المستحيل أن تترك التحرك بحرية في قصف الأراضي السورية.
العالم يتجه نحو تعدد الأقطاب، ولن تبقى أوروبا وأمريكا مركز الثقل، واليوم تتجه الأنظار نحو اتحاد “بريكس”، الذي يضم دولاً على وشك أن تصبح من الدول المتقدمة اقتصاديًا مثل البرازيل والصين وروسيا وجنوب أفريقيا، في آخر اجتماعات الدول الأعضاء بحث الحلف إمكانية التوسع اكثر وهذا ما تأكد عندما أعربت كل من إيران والأرجنتين عن رغبتهما بالانضمام. ما يجمع أغلب هذه الدول هو الرغبة بالتخلص من القيود المفروضة عليها من قبل الغرب وصندوق النقد الدولي وبدا ذلك جليًا عندما انتقدت الدول الأعضاء في آخر اجتماعاتها “إساءة استخدام العقوبات الاقتصادية”، وما يؤكد التغيير هو رغبة دول قوية في المنطقة مثل السعودية ومصر وتركيا بالانضمام للحلف وفق الموقع الرسمي لـ”بريكس” مما ينذر بخطر على قوة الغرب.
بالعودة للزيارة التي خيبت آمال واشنطن، يقول بعض المحللين إن رفض السعودية زيادة انتاج النفط قد يؤثر سلبًا على محمد بن سلمان المتهم بمقتل الصحفي جمال خاشقجي، فمنذ عهد ترامب والرئاسة الأمريكية تماطل بمحاسبة الأمير السعودي في قضية خاشقجي لأنه حليف استراتيجي في المنطقة، لكن بعد فشل الزيارة، تكثر المطالبات بعدم منح الحصانة الدبلوماسية لمحمد بن سلمان وهذا ما يبرر تأجيل بايدن قرار البت بمنحه الحصانة لمدة ستين يومًا، ما يشير إلى وجود مفاوضات غير معلنة تحدث بين السعودية وأمريكا حاليًا، إضافة لذلك فإن ما يزيد ضغط أمريكا على السعودية هو حاجة بايدن لإعادة كسب ثقة الناخبين الأمريكيين الذين بدأوا يشككون في السلامة العقلية لرئيسهم.
من المؤكد أن نجاح المسيرات الإيرانية في الحرب الأوكرانية، سيؤثر على مفاوضات الملف النووي ويجعل أميركا أكثر تساهلاً مع طهران، ومن جهة أخرى سيؤجل قرار الحرب نظرًا للأثمان الباهظة التي يمكن أن تدفعها إسرائيل إذا ما أقدمت على إشعال الشرارة الأولى. يضاف إلى ذلك أوراق إيران الكثيرة من اليمن إلى جنوب لبنان والمنطقة الجنوبية في الشام وصولاً إلى غزة، حيث سيكون على كيان الاحتلال مواجهة حرب على عدة جبهات. هذا الخوف الإسرائيلي، يفسره هلع كيان الاحتلال من المهلة التي أعطاها السيد حسن نصر الله في موقع حقل كاريش والتي تنتهي في أيلول، فالغرب وبجانبه إسرائيل يريدان الحصول على الغاز والنفط من المتوسط لأجل استخدامه عالميًا ضد روسيا، وليسوا في وارد الانهماك في حرب تؤجل موضوع الاستخراج لأجل حرب ليسوا قادرين على ضمان نتائجها. حتى الآن، يبدو الدب الروسي مشغولاً بجمع العسل، بينما بايدن يصافح الهواء!