الاقتصاد وعلَّة الارتزاق – الأمين جورج يونان  

Share

حضرة الأمين الجزيل الاحترام أحمد أصفهاني،

حديثُكَ القَيِّم عن الأمين الراحل محمود غزالي يُثيرُ أموراً وشؤوناً، لا بدَّ من العودة إلى الحديث عنها، خصوصاً في هذا الزمنِ الرديءِ الذي يُمرُّ فيه وطننُا وتمرُّ فيه حركَتُنا السورية القومية الإجتماعيَّة.

لقد كُنتُ على معرفةٍ بإمكانات الأمين غزالي الفكريَّة والصحافيَّة. لكنني، حين التقيتُ به لسنواتٍ عديدة خَلَت، لم أكن أعرفُ  بأنَّه يملكُ خبرةً في الاقتصادِ. وقد ذكَرتَ بأنَّ الاقتصادَ “مادةٌ جافة في أفضلِ الأحوالِ على رغمِ أهميته للفكر القومي الاجتماعي آنذاك.”

وبالفعل، كان الزعيم قد كَرَّسَ المبدأ الإصلاحي الرابع والمحاضرة الثامنة لمعالجة أمور الاقتصاد، “الاقتصادُ ارتقاء”. وقال إنَّهُ لا مجتمع قومي بدون إقامة اقتصادٍ قومي، وربَطَ الاقتصادَ بالإنتاجِ: “والإنتاجُ، أساساً، هو المفتاحُ للقضية الإقتصاديَّة كلّها، بدون الإنتاج لا يمكننا أن نَحلَّ مشكلة واحدة من مشاكل الاقتصاد في مجتمعنا”، والإنتاجُ “هو حقٌ عام لا حقُ خاص”. وفي محاضرَتِهِ السادسة، قال إنَّ المصالِحَ ليست مجرَّد منافع، المصالح هي مصالحُ الارتقاء والفن، مصالح جمال الحياة كما هي مصالح الاقتصاد والصناعات والتجارة، المصالح المادية التي يتوقف عليها المجتمع مادياً.

والحقيقة هي أنَّ الإنتاج يَتَطَلَّبُ كفاءات مختلفة، تتوظَّفُ في مشروعٍ معيَّن: و”ما من عملٍ أو إنتاجٍ في المجتمع  إلّا وهو عملٌ أو إنتاج مشترك أو تعاوني.”

إنَّ أشرسَ الحروبِ اليوم هي الحربُ الاقتصادية. ورغم رؤية سعاده، فقد تجاهلت قياداتُنا الحزبية المختلفة هذا الشأن ولم تجد أية ضرورة لتَعْبِئَةِ القواعد الحزبية ولمساعدَتِها في تحقيقهِ. وظاهرٌ أنَّ غالبية قياداتنا لم تملكْ الرؤية والقدرة الفكرية لاستيعاب الكفاءات الفكرية، والاقتصادية (من مهنية وتجارية ومالية وفنِّية)، فتغرَّبَت هذه الكفاءات داخليّاً وخارجياً، وانصرفت إلى السياسة، وجعلت مواقعها الحزبية قواعد للقفز إلى المناصب السياسية.

في آخرِ زيارةٍ لي إلى بيروت الصيف الماضي، صَدَفَ أن التَقَيت بعض الخريجين الجدد، ومن اختصاصاتٍ متعددة، وحين سألتهم عمّا يعملون؟ وأين؟ كان الجواب واحداً: ليسَ هناك عمل. الجامعات اللبنانية، بالإضافة إلى شَتّى الاختصاصات، تُخَرِّجُ كُلَّ سنةٍ أعداداً كبيرة من الأطباء، وهو عملٌ يَدُرُّ عليها أموالاً طائلة إذ تحصل منهم على أقساطٍ عاليةٍ. هذا في وقت لا تستثمرُ فيه ليرة واحدة في بناء مؤسساتٍ يستطيعُ هؤلاء التوظُّف فيها، وفي وقتٍ بلغت نسبة الأطباء في بيروت طبيباَ لكلِّ 200 شخص. وهكذا، فالخريج يَقَعُ فريسةً السَفَرِ والغربة، والغُربةُ “قبرً آخر” كما وصفها أدونيس.

والدكتور هشام شرابي، في غربته، تمادى أكثر في كتابه “المثقفون العرب والغرب” الصادر عن “دار النهار” عام 1971 وقال: “إن انهماك ذوي الفكر والاختصاص (في بلادنا) لا يرتكز في العمل لأهدافٍ إجتماعية يغنى بها المجتمع بل في السعي وراء الرزق والمصلحة الفردية…”. وهذا ما سمّاهُ “عُبودية الارتزاق”. ولكن هذا الاغترابَ ما كان إلّا قسراَ

نعم، لقد بقيَ الإقتصادُ فكراً ولم يتحول إلى ممارسة في برنامج القيادات الحزبية التي توالت على مرِّ السنين. وقد ذكرتُ لك سابقاً وفي حديثٍ آخر بأنَّ التاريخ الطويل لقيادات الأحزاب العلمانية في الفشل وفي الأزمات المتعاقبة يرجعُ سببه إلى مفهومها بأن الحلول هي الحلولُ السياسية السريعة، وهي لا تأتي إلّا باجتراح العجائب. ولاجتراح العجائب لا بد من المخلِّص والساحر والبطل الخارق الذي نحتته وكبّرت هالته لتعبئة الجماهير وراءه  للوصول إلى السلطة بأقصر طريق. فهاجس السلطة هذا جعلها شرسة في شهواتها، فانبرت إلى المغامرات السياسية، متسلحة بـ”المنطق” العسكريتاري وممتطيةً العسكر في غزواتها. أما العمل النهضوي في بناء المجتمع وتحصينه بالمؤسسات المدنية والإقتصادية وبالمعرفة والثقافة فلم يكن في برنامجها. وبتموضعِهم السياسي حفروا خنادق وتمركزوا ومَرْكَزوا القوميين فيها. ومن جرًاءِ ذلك جرَّدوا القواعد من إمكاناتها البشرية، فداهمتهم رغبة الهجرة ومرارة الإغتراب.

ومن الغرابة أنَّ هشام شرابي، رغم قولِهِ، كان واحداً من الذين وقعوا في علَّة السياسة، إذ وَرَدَ اسمُهُ في الخماسية السياسية: أميركا – شارل مالك – هشام شرابي – عصام المحايري – جورج عبد المسيح أثناء جريمة عدنان المالكي. ومن سيُقنِعُني بأنَّ صراع المحايري – عبد المسيح على الرئاسة لم يَكن، في دواخلهما، إلّا صراعاً على الزعامة.

يحضُرُني حديثٌ للموسيقار منصور الرحباني أجريته معه ربيع عام 1996 لمجلة “الحكيم” التي كانت تصدُرُ عن منظمة الأطباء العرب الأميركيين، قالَ فيه: “خسرنا معركة المدفعِ، والمدفَعُ لم يكُن كفوءاً ولن يكونَ اليومَ. يجبُ أن لا نخسرَ معرَكَةَ الفكرِ والعلم والبناء، كفاءَاتُنا ستمكننا من القبض على زمام الأمور، يجب ألّا ينحسِرَ العنفوان الحضاري عن أرضنا، وإن انحَسَرَ فسيطغى علينا العدوُّ اقتصادياً، يُلوحون بأعلام الصلحِ، أنا لا أصالح. لا زالوا يحلمون بأرض الميعاد، وأرض الميعاد في كتابهم هي الأرض التي كانت تُدعى أرضَ كنعان، وهيَ ليست فلسطين فقط بل تشمُلُ سورية ولبنان”. والعنفوانُ الحضاري يتطلَّبُ كفاءات في كُلِّ المجالاتياً علمياً حضارياً اتَّبع التوعية والتعبئة والممارسة والإنتاج.

ولكن القيادات الحزبية المتعاقبة شذّت عن الرسالة الحضارية، وأمعنت في التوغل في ثقافة العسكريتاريا. وبهذا التصرف غرَّبتْ الكفاءات الفكرية الرؤيوية، وخلَّفت الكوارث على القوميين وعلى البيت القومي وعلى الأمة.

إنَّ الأمرَ يتطلَّبُ قيادة رؤيويَّة تتخطى الحالة الرديئة الراهنة، وتستشرفُ المستقبل. قيادة قادرة على تعبئة الصفَّ كُلَّهُ بالالتزام بالغاية وبالنظام “منعاً للفوضى”، لتحقيق الغاية بالتصميم وبالممارسة.

تحيا سوريا.

.

 

0
0