عايشتُ منذ العام 1970 أزمات متتالية في الحزب السوري القومي الاجتماعي، كنتُ فاعلاً في بعضها ومنفعلاً في بعضها الآخر، ونأيت بنفسي عن مفاعيل بعضها في أحيان قليلة. ويبدو لي الآن أن تلك الأزمات تناسلت من رحم الصراع على السلطة، وإن حاول مثيروها في مرّات كثيرة أن يغطوا هذه الحقيقة بقناع مخادع من الشعارات الإيديولوجية والسياسية التي انطلت مرحلياً على القوميين الاجتماعيين، فشرذمت صفوفهم وشوّهت الوحدة الروحية التي هي من الميزات الأساسية للنهضة القومية الاجتماعية.
في ثلاث مناسبات أدّت الأزمة الحزبية الداخلية إلى انشقاق الحزب. سنة 1957 في “الانتفاضة” التي قادها جورج عبد المسيح. وسنة 1975 في “حركة المنفذين” التي واجهت “التنظيم السري”. وسنة 1987 عندما أعلن رئيس الحزب عصام المحايري حالة الطواريء في وجه “المجلس الأعلى”. ومع أن الحالتين الأخيرتين زالتا بشكل أو بآخر بعد سنوات من وقوعهما، إلا أن الحالة الأولى مستمرة حتى اليوم على رغم ما تردد عن خطوات توحيدية خجولة ظلت عند حدود جس النبض والصور التذكارية فقط.
ولا يدخل في تصنيفنا هذا نشوء “الأمانة العامة” للحزب السوري القومي الاجتماعي في الكيان الشامي. فهذه خطوة محكومة بقانون الأحزاب الشامي، ولا تعبّر عن الإرادة القومية العامة بقدر ما هي تلبية لظرف سياسي قليل التأثير قد يستفيد منه بعضهم إذ يشاركون في الحياة النيابية والحكومية. والواقع أن “الأمانة العامة” تأسست بعد أن غضّت القيادة المركزية النظر عن المخالفات الدستورية المحيطة بقرار نشوء “تنظيم مستقل” في الشام.
نعود إلى “الانتفاضة” سنة 1957. الصراع الداخلي في الحزب تمحور حول نقاط خلافية عدة، منها: مقتل عدنان المالكي، الانحراف السياسي والعلاقة مع المعسكر الغربي، الانحراف العقائدي، الخروج على الدستور… وغيرها. وقد عمد الطرفان إلى استخدام كل الوسائل الإعلامية المتاحة لاتهام الطرف الآخر بأنه خارج عن العقيدة وعن النظام وعن الممارسة المناقبية. ويلاحظ هنا أن أصابع الخارج لم يكن لها تأثير علني على الصراع الحزبي.
أما سنة 1975 فقد شهدت صراعاً بين معسكري “اليمين” و”اليسار”: تيار يطالب بتطوير العقيدة وتعديل الدستور وتوجيه العلاقات السياسية نحو معسكر القوى التقدمية والاشتراكية، وتيار آخر يبدي حرصاً على العقيدة ويرفض أي تعديلات تخالف الدستور الذي وضعه سعاده ويحتفظ لنفسه بمساحة مستقلة للتحالفات السياسية. في هذه المرحلة برز التدخل الخارجي في شؤون الحزب الداخلية، خصوصاً من قبل منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي سنة 1987، بل منذ اغتيال عميد الدفاع محمد سليم سنة 1985، اتخذ الصراع منحى آخر كان للعنصر الخارجي الأثر الأكبر في إدارة دفته. إنه الصراع بين الإرادة السياسية الشامية ذات البعد القومي من جهة والدور الذي أرادت منظمة التحرير الفلسطينية أن تحتفظ به لنفسها في الساحة اللبنانية، من جهة أخرى. كان طرفا الصراع الحزبي مجرد أدوات في لعبة قومية وإقليمية معقدة. ومع ذلك، حاول كل من “المجلس الأعلى” و”الطواريء” إعطاء أبعاد عقائدية ودستورية وسياسية للممارسات الدموية التي لطخت سمعة القوميين الاجتماعيين آنذاك.
في هذه المناسبات الثلاث، كانت القيادات السلطوية قادرة على إلهاء القوميين الاجتماعيين بشعارات فضفاضة مثل العودة إلى سعاده، ومواجهة الانحرافات، وتصحيح المسار وغيرها. وقد تقبّل الرفقاء، وأنا واحد منهم للأسف الشديد، أن ينظروا إلى مسارنا الحزبي بعين التحزب والفئوية مطمئنين إلى أن القيادة التي منحناها ثقتنا ستصل بالحزب إلى بر الأمان للقيام بمهمته النهضوية الحقيقية. لكننا فشلنا في مساعينا. وظلت الأزمات تتوالى لينشغل القوميون الاجتماعيون في “معالجة” أوضاعهم الداخلية، بينما “المهمة الأساسية الطبيعية الأولى” التي وضعها على عاتقنا مؤسس النهضة هي انتصار حقيقة العقيدة وتحقيق غايتها.
إن مخاطر الأزمات السابقة ذات المفاعيل المستمرة لا تقارن قط بالكارثة التي تنتظر الحزب في أزمته الراهنة منذ العام 2016. فإذا كانت الدوافع الفعلية لتلك الأزمات قد اختلطت بعوامل داخلية وخارجية زادت الصف الحزبي بلبلة وضيّعت بوصلة الرؤية عنده، فإن الأزمة الحالية شديدة الوضوح ولا تخفى عن الأعين الواعية. كل أطراف الأزمة مؤمنون بسعاده زعيماً ومعلماً وهادياً، ومتفقون على الخطوط السياسية العريضة من العلاقة مع دمشق إلى التناغم مع محور المقاومة، وغير مختلفين في الفكر والتحليل، ويريدون جميعاً “الاحتكام” إلى دستور سعاده… إذن ما هو سبب الخلافات التي لا تكاد تهدأ حتى تندلع مجدداً مع لاعبين جدد في أدوار مكررة؟
الإجابة الوحيدة هي: الصراع على السلطة، أو بعبارة أدق الإقدام على كل ما من شأنه ترسيخ التمسك بزمام السلطة!
التعديل الدستوري الذي ألغته المحكمة الحزبية كان من أجل السلطة. القرارات الانتقامية ضد أعضاء المحكمة الحزبية جزء من لعبة السلطة. تعنّت الرئيس علي قانصو بمنصبه الوزاري مخالفاً بذلك دستور الحزب هو “ممارسة مرضية” للسلطة. أربعة رؤساء للحزب خلال ثلاث سنوات مؤشر إلى عمق أزمة تداول السلطة.
قلنا إن الأزمة الحالية شديدة الوضوح… وفي وضوحها هذا تكمن خطورتها الشديدة من الناحيتين التاليتين:
الأولى، أن الآليات الدستورية المعمول بها حالياً غير قادرة على وضع حد لهذه الممارسات السلطوية.
الثانية، أن بعض الصف الحزبي يقبل الأزمة بعامل القناعة، وبعضه بعامل النظام، وبعضه بعقلية “من يتزوج أمي أسميه عمّي”.
إن الركون إلى منطق الصراع على السلطة بوصفه المعبر الوحيد لقيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي يُبطلُ غاية الحزب التي هي بعث نهضة سورية قومية اجتماعية، ويحوّله إلى مجموعات متناحرة على غرار ما عايشناه خلال السنوات الثلاث الماضية.
هناك خيط رفيع جداً بين أن يكون الحزب حركة الشعب العامة، كما أراده سعاده، وبين أن يكون مجموع أشخاص متكافلين متضامنين في مصالحهم الشخصية. والخطر الكارثي المُحدق بنا الآن أن هذا الخيط بات أوهى من بيت العنكبوت!