أول آذار: الحزب – الدولة والأمة السورية

Share

عصام عزوز

 أنجبت الأمة السورية أنطون سعاده في بدايات القرن الماضي- أول آذار 1904- وهي في حالة كارثية تمثلت بوجود المحتل التركي، ولاحقاً وبعد سنوات انحدرت أحوال شعبها إلى درك مآسي الحرب العالمية و”السفر برلك” والمجاعات (جبران خليل جبران.. مات اهلي) وهذا ما دعا سعاده بعد المعاناة والتأمل والتفكير إلى طرح سؤاله الهام “ما لذي جلب على شعبي هذا الويل؟” 

في البحث عن الجواب، قاد سعاده إلى سؤال آخر أكثر عمقاً وتعقيداً “من نحن؟” وليتوصل في دراساته وأبحاثه إلى ضرورة تعيين هوية الأمة وقضيتها وتحديد وطنها الذي نشأت فيه. ولترسو به مراكب البحث والتنقيب على شطآن نظريات جديدة في نشوء الأمم والأمة السورية والاقتصاد والفلسفة ومقولات مميزة في الدين والسياسة والأدب والفن. وكل ذلك يستند بحثيًا إلى نهج علمي ويهدف إلى تأمين مستقبل الأمة ومصلحتها التي هي فوق كل مصلحة، وتأسيسًا لخطة نظامية دقيقة تحبط خطة الأخطبوط التي بدأت من جنوب سوريا.

إذن، اقتضت مصلحة الأمة تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي “دولة الأمة السورية المصغرة” و”الخطة النظامية المعاكسة” مُحولاً النظرية إلى واقع عملي يخلصها – أي الأمة – من أمراضها ويرفع مستوى حياتها ويخرجها من التخبط والفوضى بين مختلف العقائد والمذاهب، إلى نظرة جلية واضحة للحياة والكون. وليوجد لها مكانًا لائقًا تحت الشمس وبين الأمم.  

مضى سعاده في هذا الطريق الوعر الذي اختطه بارًا بقسم الزعامة عند التأسيس، عاملاً بجد وكدّ.. مُعتقلاً في سجون الانتداب.. منفيًا في مغترب قسريّ.. ملاحقًا في لبنان.. معلنًا ثورته.. ومستشهدًا ببطولة قل نظيرها، استحضر فيها الملاحم الأسطورية والرسولية في التراث السوري العريق.. فختم رسالته بدمه كما أراد وكما كان يصرح.

حاول تلامذته متابعة الطريق، وبعد هذه الثلاثة والسبعين عامًا، يحق لأي سوري في هذه الأمة أن يتساءل ويسألنا: إلى أين وصلتم على طريقه؟

ماذا قدمتم للأمة التي عانت الويل وما زالت؟

أين هي الخطة المعاكسة لمغتصبي الجنوب؟

في نظرة سريعة على واقع الأمة السورية، نجدها باتت أكثر تفككًا وتشرذمًا من أي وقت مضى، والنزعات المادون وطنية تتكاثر كالفطر من طائفية ومذهبية وعشائرية ومناطقية، أضعاف ما تركها عشية استشهاده أو حتى يوم ميلاده.

إذا كان هذا هو حال الأمة فكيف حال دولتها المصغرة “الحزب؟”

 اعتبر سعاده حزبه دولة الأمة المصغرة. وأراد منا أن نكون أعضاء في هذه الدولة الموحدة والمتماسكة والمستقلة وصاحبة السيادة على نفسها، وتنهج تربويًا بمحاربة الأنا غارسة النحن قيمًا للإنسان الجديد بتقاليده وسلوكه. ومن ثم تتوسع هذه الدولة المصغرة وتكون مثالاً يحتذى لتشمل بقيمها ومفاهيمها ونظامها ونهضويتها، أرجاء الوطن السوري غارسةً إنسانها الجديد في ربوعه وعلى حدوده. إذا كان هذا المبتغى والرجاء، فأين موقع الدولة المصغرة – الحزب – من حالة الأمة والوطن؟ وهل نجحت الدولة الحزب بأن تصنع الأمة على شاكلتها؟ بكل أسف أصبح الحزب الدولة على شاكلة الأمة في أسوأ حالاتها. والأنكى أنه أصبح على شاكلة الأحزاب السياسية والأنظمة الكيانية بكل موبقاتها وآثامها وخاصة في لبنان والشام.

مرض التشرذم والصراع الداخلي أصبح جزءًا من مسيرة الحزب “الدولة” ذاته. فقد بدأ بعد سنوات عدة من غياب سعاده، ووصلت الصراعات الداخلية إلى حد الاغتيالات المتبادلة لأهم مفكريه وقياداته من أبو واجب ومحمد سليم وحبيب كيروز وتوفيق الصفدي. ومن لم يستشهد “بداحس وغبراء الرفقاء” قزمته وقتلته الإشاعات المتبادلة، منها المختلقة والمبالغ فيها، في الإعلام وفي البريد الحزبي كتعاميم داخلية، بل وفي تأليب الحلفاء وأجهزتهم على الرفقاء، واستمرت الانقسامات إلى أن وصل آخر أعدادها حتى الآن إلى أربع “طوائف” رئيسية والعديد من التجمعات والتكتلات احتجاجًا ورفضًا لأدائهم وسلوكهم وممارساتهم وفسادهم وتحاول التجمع والعمل خارجهم ليكون البديل.

كان سعاده قد أوصانا: اذكروا فلسطين وسيناء واسكندرون والأهواز، كأجزاء غالية من أمتنا يجب أن نعمل على تحريرها. لكن الذي حصل بعد هذه السنين، وما آلت إليه أحوال وطننا، أن أضيف إليها أجزاء أخرى احتلت لاحقًا كالجولان والضفة الغربية والقدس وعفرين وجرابلس وادلب.

كان الحزب قد ساهم في المقاومة منذ ثورة 1936 و حرب 1948 عبر رفقاء متطوعين في جيش الإنقاذ، علمًا أنه رُفضَ سعي سعاده للقتال في كتائب وجرائد مستقلة، كما وشارك في المقاومة الفلسطينية المعاصرة مع فتح والجبهة الشعبية وأيلول الأسود وكان له الدور الرئيسي والمميز في المقاومة الوطنية اللبنانية بعمليات نوعية استشهادية قامت بها شابات وشباب منهم خريجون جامعيون بعمر الورود. وساهمت ليس في التحرير فقط، ولكن بإعلاء ثقافة المقاومة، ورفع معنويات الشعب السوري. وكانت قد وصلت إلى الحضيض إثر احتلال بيروت عام 1982 “عملية الوينبي وكسر نظرية أمن الجليل” وكادت لولاها أهم حلقات المشروع “الإسرائيلي” أن تتقدم.

هذه المقاومة الوطنية التي كان السوريون القوميون عصبها، مع عدة أحزاب علمانية من كل شرائح المجتمع السوري وطوائفه، تلقت انتكاسة عبر احتكارها لجهة واحدة وحصرها في زاوية طائفة واحدة بدءًا من عام 1992. فانتهى الحزب القومي إلى نادي الأحزاب السياسية اللبنانية متخليًا عن الفعل المقاوم وعن التميز النهضوي أيضًا، وقبلت قياداته سعيدة بحصتها المتواضعة من فتات المكاسب في المجلس النيابي وغيره من وظائف النظام اللبناني، متخلين حتى عن المقاوم المفصلي حبيب الشرتوني، فتركوه لقمة للقضاء اللبناني الانعزالي ليحكم عليه بالإعدام دون أن يحركوا ساكنًا لا هم ولا الحلفاء المقاومين، وهو الذي لولا عمليته النوعية، لما كان أيّ من السياسيين اللبنانيين في موقعه الآن.

إذا كانت القيادة قد تخلت عن الفعل الثوري المقاوم، الذي مثله سعاده وتلامذته الشهداء، فإن روح التضحية والفداء ما زالت تفعل فعلها في كثير من الأعضاء، ممن يتوقون لتكرار ملحمة سعاده وميشيل الديك ووديع اسبيرو وغسان جديد وعلي الحاج حسن وابتسام وسناء وخالد وعلي غازي طالب، وعشرات بل مئات غيرهم، لا بل وحتى عندما حاول بعض الرفقاء الغيورين العمل لبعث عمليات المقاومة بشكل مستقل، تمت عرقلتهم وتخريب جهودهم من قبل هذه القيادة عينها وبالتواطؤ مع “الحلفاء”.

الحزب السوري القومي الاجتماعي بات بفصائله الرسمية، حزبًا سياسيًا عاديًا في لبنان، وحزبًا جبهويًا طاله “التأميم” في الشام، وبالكاد له حضور في بقية الكيانات.

ما يدعو للارتياح، أنه بعد كل هذه التراجعات، نجد أن سعاده وتاريخه وأفكاره يلقى رواجًا واحترامًا على الصعيد الشعبي وعند النخبة المثقفة من فنانين وشعراء وأدباء ومفكرين، وحتى ممن كانوا سابقًا يعادونه ويخاصمونه. لكن هزالة التنظيمات الرسمية وفسادها وابتعادها عن المسائل القومية الكبرى وعن معاناة الشعب وتحالفاتها الذيلية للأنظمة والأحزاب المُعوّمة وبعض الأنظمة الإقليمية وامتداداتها، ومشاركتها الفسادين مصاصي الدماء الجاثمين على الرقاب والصدور، جعلت من هذه الصورة، نقيضًا لصورة سعاده المشرقة وفكره وبلا مردود عملي يفيد النهضة القومية الاجتماعية ومراميها الكبرى.

 لقد باتت التنظيمات الرسمية سجونًا لسعاده ونهضته، وأصبح مشروع تحريره من زنازين هذه التنظيمات وسلاسل مشغليها، أولوية ضرورية ليس لمستقبل الحزب فحسب، بل لسلامة الأمة ككل، لأن سعاده عظيم من هذه الأمة ومن أجلها وليس ملكًا حصريًا لمجموعة أو فئة أو تنظيم أو حزب. إنه وقف لكل السوريين كما هو جبران والكواكبي والمعري ويوسف العظمة وبقية المُلهمين.

ميلاد سعاده، هو البشارة لإعلان وجود سوريا الأمة، وأنها للسوريين وقضيتهم المستقلة، ومن تاريخها تُستمد روح نهضتها، وهي مجتمع واحد ضمن حدود تميزها عن سواها. ميلاد سعاده، كشف عن وجودها وخلاصها بعد أن  ظن أعداؤها أنها قد ماتت.

0
0