متى حدث هذا الانفصال وغياب المفاهيم والوضوح في المجتمع السوري؟ أوَ لسنا نحن من كان فلاسفتنا الرواقيين أول من عملوا وأسسوا لنظام فلسفي مترابط، ترتبط فيها علوم المنطق والأخلاق والفيزياء وفق نظام عضوي متبادل الأدوار ومتساوي الدرجات. تتآلف فيه وتترابط أقل التفاصيل مع العقائد الرئيسية بسلسلة متواصلة وغير قابلة للانفكاك.
ما الحل؟ وكيف لكل من هاتين الشخصيتين التكامل مع بعضهما البعض. كيف يمكن لمن درس وحدّد عناصر الشخصية السورية المبدعة عبر التاريخ أن يعود لواقعه ويتواصل ويتكامل مع من يمتلك حالياً في حياته وأرضه وأغانيه ورقصاته وجيناته آثاراً واضحة غير قابلة للجدال من الشخصية السورية المبدعة؟ كيف لنا أن ننهي هذا الإنفصال وتقطيع أشلاء الجسد الواحد!
لنستطيع اقتراح حلٍّ لا بد من دراسة الواقعين العلمي والمجتمعي. وفي المقاربة الأولى للموضوع يمكننا القول إن الواقع الثقافي يفتقد للمنهجية العلمية كما يشكل غياب الرؤية الواضحة والخطط والاستراتيجيات اللازمة لتحقيق الأهداف، سماته الرئيسية. فالآثار والتاريخ والأحداث والفعاليات الثقافية تتم وتُدرس وفق أهواء دينية أو سياسية أو شخصية. حتى الواقع العلمي مشرذم ومتعدّدة مدارسه والمنهجيات التي يستخدمها الباحثون (كل بحسب بلد دراساته العليا). فلم يحصل أن تجمع عدد من الباحثين لوضع منهج علمي مشرقي خاص تُدرس من خلاله حقبة زمنية ما. وتبقى المعضلة الرئيسية هي في غياب الجدوى المجتمعية الكاملة من هذه الدراسات نظراً لانفصال الباحثين عن واقعهم ومجتمعهم في غالب الأحيان حتى لا نعمم تعميماً جائراً.
هذه النظرة السريعة تسمح لنا بتحديد موقعنا أفراداً وجماعات على سلم العلم. فإذا اتبعنا فلسفة الرواقيين التي تقول إن العقل يبدأ كصفحة بيضاء عليها كل المعلومات والمفاهيم التي تؤلف العقل وتدعى هذه المرحلة تكوين العقل الراشد، وعندما تنتقل هذه المفاهيم لتصبح مفاهيم مدركة بوضوح ومطابقة للحقيقة، تنتقل بذلك إلى مرحلة نظام العلم، ندرك أننا أفراداً ومجتمعاً ما زلنا في بداية مرحلة العقل الراشد. وندرك أيضا أننا نحاول امتلاك معلومات ومفاهيم دون روابط حقيقية بينها ودون إدراك واضح للعلاقات فيما بينها وللنتائج التي نريد تحقيقها من خلالها. ومن هنا نفهم الانفصال حتى التنافر أحياناً بين الأفراد والمؤسسات والجهات العامة والمجتمعية المتنوعة.
حالنا هذه لم تتغير بعد حوالي القرن من تحديد الفيلسوف أنطون سعاده لعناصر الشخصية والهوية السورية وتأسيس نموذج مؤسساتي يخرجنا من التخبط والفوضى إلى النظام والوضوح. فهل نبقى مكتوفي الأيدي بانتظار أعجوبة ما؟
نقول مع زينون المَنْسي مؤسس الرواقية : (سعادة الملاحة كان غرقي)، في إشارة لكون غرق سفينته التجارية المحملة بالبضائع الحدث الرئيسي الذي تفرغ من بعده أكثر للفلسفة. أو ولم تغرق سفينتا وبتنا بحاجة لتخصيص وقت لفلسفتنا وبناء حياتنا السورية التي نريد.
* هزار الأحمر، دكتوراه في علم الإنسان (Anthropology) من جامعة Nanterre في باريس. تعمل كباحثة في دائرة المعارف السورية لعلم الانسان، كما عملت كأستاذ محاضر في “معهد علوم الانسان. تقول عن الباحث في علم الإنسان ما يلي: “إنه شخص يعرف الماضي ويعمل في الحاضر لرسم المستقبل.”