الثاني: عدم القدرة على تحقيق نجاحات محددة يمكن قياسها في أي من المجالات المنوّه بها أعلاه إضافة إلى عدم المقدرة على توفير سلة من الخدمات تشكل “شبكة أمان” تربوية وثقافية واجتماعية تشيع حالاً من الاطمئنان والثقة والتعاضد. ولا يخفى في هذا السياق التراجع الملحوظ في أداء عدد كبير من المؤسسات لجهة دورها في الدفاع عن الجاليات أو عدم القدرة على توظيف حجمها العددي في النشاط السياسي الانتخابي على مستوياته الثلاثة.
إن أخطر ما تعاني منه الجاليات العربية هو عدم وجود “مركز للدراسات والأبحاث” تقع على عاتقه مسؤولية تكوين التصور العام لأوضاع الجاليات انتشاراً وأرقاماً وكفاءات مهنية ومالية واقتصادية وعلمية، حيث يشكل ذلك ممراً إلزامياً لأية عملية تخطيط للمستقبل أيا كان نوعها وحجمها. ولعل الافتقار إلى مركز من هذا النوع يعيق إلى حد كبير فرص التخطيط الاستراتيجي ويحوّل الأنشطة على أنواعها “خبط عشواء” في عالم تتحكم به تقنيات عالية في تحديد السلوك الفردي والجماعي وخبرات قياسية في علم التخطيط وإدارة المشاريع.
إن ما تقدم أعلاه يشكل حافزاً لقراءة أوضاع الجاليات العربية بشكل هادئ. والمقصود بذلك هو الإحاطة الدقيقة بالعوامل التي واكبت انتشارها والظروف الموضوعية التي رافقت هذا الانتشار وما أدت إليه من تشكل لمجموعة من “الدوائر” “العائلية” و”الطائفية” و”المذهبية” و”المناطقية” و”الحزبية” و”المهنية” والأخيرة نادرة جداً.
وقد لعبت هذه الدوائر دوراً ملحوظاً في تشكيل هوية المغترب الوافد من العالم العربي وساهمت إلى حد كبير في خلق الدورة الاجتماعية الثقافية للأفراد والعائلات المنتمين إلى هذه الدوائر. كما كانت لكل دائرة أنشطتها الثقافية والرياضية والترفيهية وسوى ذلك من عوامل حافظت على حد معيّن من التماسك المطلوب لأداء وظيفتها والحفاظ على كيانها. غير أنه مع مرور الوقت استنزفت هذه الدوائر الوظيفة المناطة بها بفعل عوامل التكرار والاجترار وتحولت إلى مؤسسات صغيرة تحتفل يوماً بتأسيسها ويوماً آخر “بوفاة” أو “استشهاد” مديرها العام أو مؤسسها.
بمعنى آخر تحولت هذه الدوائر إلى جزر صغيرة معزولة عن بعضها البعض بحواجز نفسية وطائفية وسياسية عطلت قدرتها على الفعل في محيط يتصف بحركة دائمة لا تقبل بالفراغ أو المراوحة.
اختصار القول، إن ما كان بالأمس ضرورة للبقاء بفعل متطلبات التأقلم والتكيف وما يرافق ذلك من ضغوطات نفسية واجتماعية، تحوّل اليوم إلى موانع تعيق عملية الخروج من رحم هذه الجزر المتناثرة على كامل البقعة الاغترابية كيما تتمكن الجاليات العربية من حشد إمكاناتها وطاقاتها على سائر المستويات لمواجهة التحديات التي تتضاعف يوماً بعد يوم.
وباختصار أشد، إن الجاليات العربية اليوم تقف مكتوفة الأيدي أمام حائط مسدود وتعيش بدون أفق يحدد لها معالم المرحلة المقبلة.
لقد شكلت هذه الحالة ولا تزال مصدر قلق كبير لنا في نطاق “الجمعية السورية الكندية الثقافية” في مدينة تورونتو وعدد من المدن المحيطة، ورأينا أنه لا بد من دق النفير تحذيراً من مغبة الدوران في هذه الحلقة المفرغة أو تحذيراً من حالة الاسترخاء والقعود والاحباط التي لن تساهم إلا في تعميق أزمتنا وتحجيم دورنا وتقزيمه لا بل إلى شله وتعطيله.
لقد آن الأوان أن نخرج بقناعة واحدة أمام هذا المشهد المأساوي الذي لا يمكن التعاطي معه بالخفة والميوعة أو باعتماد النقد والتذمر كنهج، بديلاً عن الضلوع في مشروع بنائي توحيدي يخرجنا من دوامة التذمر والتهم والعتاب ويدخلنا في مواجهة جدية مع متطلبات المرحلة المقبلة “مرحلة ما بعد الجزر” وما تمليه علينا من تحديات جسام.
1- الرؤية وما تعنيه الأهداف المرحلية والاستراتيجية التي تطمح الجالية إلى تحقيقها.
2- البنية بما تعنيه من مؤسسات وهياكل تنظيمية جديدة تستجيب لمتطلبات المرحلة وطبيعة المهام المطلوب إنجازها عبر توسيع القاعدة الديمقراطية للمشاركة وآليات صناعة القرار.
3- الأداء وما يعنيه من خطوات تنفيذية وإدارية ومالية لتحويل هذه الرؤية إلى مشاريع عملية تنفيذية، إضافة إلى اعتماد وسائل نوعية لقياس التقدم والانجازات بهدف إعادة رسم الخطط والبرامج لجسرها مع الأهداف المرحلية والاستراتيجية.
إن عملية مسح أولية للإمكانات والطاقات المتوافرة في أوساط الجالية تؤكد بما لا يقبل الشك على وجود نواة قادرة على الانطلاق بمشروع بهذا الحجم. وهناك من التجارب عند شعبنا المقيم والمغترب ما يشكل خميرة صالحة للقيام بأعباء هذه المراجعة النقدية في محاولة جدية للنهوض بالمسؤوليات الملقاة على عاتقنا جميعاً دون استثناء.