صباح هادئ، ككل صباح آخر هنا في مخيم اللاجئين. ربما أنا وحدي من يراه هادئاً. فلا شيء سوى لعب بعض الأطفال بقطعة قماش ملفوفة تشبه الكرة. مع قليل من الشجار بين الأولاد الأكبر سناً، وصراخ الرجال على زوجاتهم في الخيم المجاورة، وعويل بعض النساء على أخبار سمعنها للتو، وصوت مطرقة تثبت وتداً أو تصلح شيئاً..
ناهيك عن كل ذلك.. الجو هادئ.
أكثر ما أخشاه في هذا الضجيج، أصوات أسمعها داخلي من حين إلى آخر. ذلك فعلاً ما يكدّر الجو ويقلب اليوم جحيماً.
خرجتُ من خيمتي. وضعتُ ذراعي على خصري، ومِلتُ إلى الوراء لأمدد عضلات ظهري قليلاً.. مع لفّة صغيرة لليمين ومثلها لليسار. سرحتْ عيناي بلون السماء الغني بالأزرق، والممزوج بمساحات أغمق من الأزرق الداكن فابتسمت.
لون حنيني داكن اليوم. ذلك الحنين الذي يفرض نفسه عليك بالقوة.. كتجنيد إجباري.
أخبرونا أن المساعدات ستصل اليوم.. وأنا أنتظرها منذ وقت. لا لأنني لم أعد أملك شيئاً مع والديّ فحسب، ولكن لأرى فيروز من جديد.
فيروز.. تسكن في الجانب الآخر من المخيّم. وفي كل جوانب قلبي.
لا حجّة لي لأذهب ناحيتها. ولا حجّة لها كي تأتي إلى هنا.
عرفتها منذ ستة صناديق، بدأت الحكاية عندما وكزَتْني أول مرة بكتفها لتأخذ دوري وتخطف الصندوق من يدي. في الصندوق التالي، مددتُ يدي أعلى منها فاستلمتُ الصندوق الذاهب لها. وفي الصندوق الذي بعده، خطفتُه من أمامها مجدداً. وهنا لمحت نظرة خيبة في عينيها. هل رأيت يوماً نظرة خيبة في عين فيروز؟ لو رأيتها، لأعطيتها كل صناديق العالم. وهذا ما فعلته يومها. ناولتُها الصندوقَ فابتسمتْ. ومنذ ذلك اليوم، صرت أدفع لها صندوقي كي أرى ابتسامتها.
ذات مرّة، تحدثنا سريعاً.. سألتُها عن اسمها وقلت لها اسمي، فابتسمتْ ومضتْ تحمل صندوقي كأنه قطعة من حلم.
في الصندوق التالي، تحدثنا أكثر قليلاً.. وقبل أن تمضي وتختفي بين رؤوس الخيم، قالت لي إنها ستنتظر الصندوق التالي بلهفة. تلك المساعدات صارت تحمل لي أكثر من صندوق عليه شعار أزرق. صارت تحمل البحر أحياناً، تحضر الصيف، تعيد سقف غرفتي المهدومة إلى مكانه، تملأ دفاتري بخربشات طفل، ترجع أبي إلى شبابه وتضع البسمة على وجه أمي من جديد.
إنه الحب يا كرام.. واحد لا يختلف. تراه أعمى، مجنوناً، ديكتاتوراً، سفاحاً.. أما ذلك الشعب الذي يحكمه الحب فهو من يختلف. البعض يرضخ لسطوته، والبعض يتمرد. ثورات قد تنجح لتُسقِط الحبَّ ويسقط معه الإنسان. أو تفشل فيسود الحب ويتلاشى شعبه.
الحب دائماً ينتصر. شأنه شأن أي عاصفة، إذا ضربتْ لا تفكر أين وكيف ومتى ستضرب، تضرب فقط.. ونحن وراء تلك العاصفة، لا حول لنا إلا أن نقيس شدتها ونحصي خسائرها.
رأيت كل ذلك، بنظرة واحدة إلى السماء. فدخلت إلى الخيمة من جديد، وقررت ارتداء ثياب العيد. أنا ليس لدي إلا “البيجامة” التي أرتديها الآن، وأقضي معظم أيامي بها. ولدي ثياب العيد التي استطعت أن أحملها معي عندما خرجنا من بيتنا على عجل. على الرغم من كثرة الملابس التي تصلنا، إلا أنني أصرّ أن أرتدي تلك الثياب كلّما أردت أن أذكر حياتي قبل المخيّم. لم هذه الثياب بالتحديد؟ لأنها تعيدني إلى وقت كنت أشعر بأنني ملك. تلك اللهفة يوم اشتريتها ورأيتها تدخل في كيس دفعت ثمنه من جيبي، ثم تلك اللحظات الأولى بعد ارتدائها والسير بها في عيد الفطر، ذلك الشعور الذي اختفى.. لا تليق به إلا ثياب العيد، وفيروز.
مشّطتُّ شعري بيدي إلى الجانب وجعلت فيه مفرقاً بإصبعي. تأكدت بأن ياقة قميصي ليست مقلوبة ومشبك حزامي في الوسط تماماً. وانطلقت إلى مدخل المخيّم.. هناك، لعلّي أرى فيروز اليوم.
فيروز.. فستانها الأحمر يسرق اللون من محيطها والدم من عروقي. حجابها الأسود يكحل بياض وجهها ويرسم له حدوداً حتى لا يغزو العالم، فيحتوي طاعون عينيها كي لا ينتشر ويقتل المزيد.. مثل جائحة لا دواء لها. تشتد جوانبه فوق خدودها كسدّ.. حتى لا يتسرب الرخام عن الجانبين، لعل الأمم تحيا بسلام. فيروز.. عيونها سوداء كدخان صعد من بيت أبي عندما سقط، كتفاها زاوية قائمة لا انحناء لها، فهكذا وجه، يحتاج صلابة هكذا كتفين.
خرجتُ من الخيمة مجدداً، ومضيتُ نحو مدخل المخيم، حيث تصل المساعدات. مع كل خطوة أخطوها رحت أفكّر بكلمات لطالما أردت أن أقولها لها. فيروز.. أنت ثانية تعيدين ترتيب خلايا قلبي كما تفعلين عند كل صباح أراك فيه. تتحكمين وتحكمين، فتجعلين من قلبي خيوطاً يُغزَل منها معطف شتوي ربما.. أو خيمة، أو مجرد بساط يدفئني قليلاً من ثلج كانون.
سأقول لها بأنني جئت إلى هنا مع والدي المسنّ ووالدتي البسيطة، حتى لا يكونا وحدهما.. سأخبرها بأنني في جذوة شبابي ولا أستطيع إنجاز شيء في حياتي إلا حبّها، وإن لم أنجز شيئاً جديداً في حياتي.. فيكفيني حبّها. سأقول لها إن غربتي هنا مؤقتة، ولكن الغربة الحقيقية.. ألا أموت بين ذراعيها.
أما هي.. فسأجعل منها عصفوراً يرتاح فوق وتد خيمة، ينظر للأفق ويخطط لرحلته القادمة، فلا أفق يقف بين عصفور وعينيه، ولا قفص يحدّ من جناحي ذلك العصفور.
سأقول لها كل ذلك بسرعة وأنا أسلّمها الصندوق الجديد، فهي عادة تأتي مع أختها وأخيها الصغار. سأعطيها صندوقي من جديد، وسأبقى دون صندوق من أجلها.. من جديد.
في هذا المخيّم، جدران صندوق من الكرتون تشعرك بالأمان أكثر من جدرانٍ هَوَت تحت المدافع.. إلا أنني سآويها اليوم داخل صندوقي. سأقول لأبي وأمي أن ينتظرا قليلاً، سأكذب وأقول إن قافلة المساعدات لم تأت، سأجد شيئاً لأقوله.. مثل كل مرّة.
لكنني اليوم متفائل بأن كلينا سيحصل على صندوقه، لن نضطر للتضحية أو الكذب. لن يحمل قلبي المزيد، فبعد ما حدث قبل هذا المخيم.. بنيت قلبي حجراً فوق حجر، استخدمت ركام بيتي، رتقته بذكرياتي.. وزيّنتُه بطموحات أكبرها أن أعلّق لك صورة ببرواز فخم على جدار ما لا يشبه الخيمة.
تابعت رحلتي نحو مدخل المخيّم، وقبل أن أصل إلى هناك رأيت الناس قد بدأوا بالتجمهر والانتظار. رحت أسلّم عليهم وأبتسم، لكن عيناي في مكان آخر تبحثان عن ثوب أحمر يتوّجه حجاب أسود.
وما أن وصلت.. جاء صوت يختلف عن الأصوات اليومية في المخيّم. إنه صوت محرّك شاحنة المساعدات. جاءت قبل موعدها، وكانت أكبر من العادة بقليل. عرفت أنني لن أعطي فيروز صندوقي اليوم، وسنعود كلانا منتصرين.. أما هي فستحمل فوق صندوقها تلك الكلمات التي أتيت لأقولها.
ومثلها فعلتُ أنا.. وضعتُ تلك الورقة في جيبي والتقطتُ صندوقاً ورجعتُ إلى الخيمة بلا فيروز. ألقيتُ الصندوق بين يديّ والديّ، وذهبت لأجد زاوية بلا جدران حتى أفتح تلك الورقة. هنا في المخيم، لا غرفة أو باب تخبّئ ورائها حفنة من الدموع. عليك فقط أن تدير ظهرك للعيون وتشكو بصمت. فأنا وحتى قبل أن أفتح الرسالة، عرفت أنني لن أراها من جديد، أردت أن أفتح الورقة فقط، لأعرف السبب.
كتبت لي.. أن رجلاً جاء من خارج المخيّم وطلبها من أبيها. وقبل أن يسألها عن رأيها، وافقوا أن تذهب معه خلال يومين. فَيَدٌ أقل في الصندوق، وعيون أقل عليها في المخيّم.. كل ذلك يزيل جبلاً عن صدر والدها.
كتبت لي.. أني جعلتها تشعر كعصفور فوق وتد خيمة، ينظر للأفق ويخطط لرحلته القادمة.
كتبت لي أنها آسفة.. وأنا قبلت اعتذارها، فهي لن تحتاج صندوقاً بعد اليوم.
-
النهاية –