القصة الخامسة: ليلى والذئب
صيفيّ هو الجو في مدينتنا الصغيرة هنا في ألمانيا.
اسمها “كاسل” مدينة هيركوليس وأرض الأخوين “غريم”. هنا انطلقت إبداعات الأخوين فألّفا وطوّرا حكايات كبرنا عليها ومنها “ليلى والذئب”. لا أعرف لم أبق أتذكّر تلك الحكاية بالتحديد، فأنا أخاف منها مذ كنت صغيراً وحتى الآن. حتى أنني أخذت عهداً على نفسي بألا أرويها لإبراهيم.. طفلي الصغير ذي السنوات الثلاث.
استيقظت باكراً اليوم.. قبل زوجتي وإبراهيم بوقت طويل. وأنا أفكر بقرية “ليلى”، ما شكلها، أين تقع يا ترى؟ هل هي “كاسل” ذاتها؟ أم هي شيء في خيال الكاتبين فقط؟
وقفت أنظر من الشباك المطل على هيركوليس.. رأيته شامخاً كعادته. فخوراً بهذه المدينة العريقة وتاريخها الجميل، وحدائقها اللامتناهية، وهدوئها الأنيق.
هذا الجو يوقظ الحنين بشكل غريب، وهذه المدينة يختلط فيها كل شيء.. مثل ذاكرتي. تماماً كما تنصهر دمشق وقاسيون وفلسطين معاً. فأنا ولدت ونشأت في دمشق، حاملاً ذكريات وانتماء وأمل فلسطين.
تلك الدمشق.. مدينة لا يمكن أن تقع يوماً وراء ظل الأرض. لن تشهد الخسوف. لن تطغى فيها رائحة البارود على الياسمين. لا يملأ صدرك مثل هواء دمشق.
لن ترى أمَلَكَ مضيئاً كما تراه في قاسيون.. والذي يتثاءب صباحاً بعد سهرة طويلة أنار فيها ليل العاصمة، وهو يستمع إلى همسات عاشقين أو هموم من صعدوا إليه في الليل هرباً من زحام المدينة. وما إن تطلع الشمس، حتى يلوّح لك قاسيون كأنه يستأذن للنوم. ثم يضع وسادته تحت أضلاعك وينام كطفل ولد للتو. قاسيون هذا.. ينبع من رأسه، ليصب صلباً أسفل شوارع دمشق.. بينما في منبعه هناك تصبح الأرض طرية كغيمة حتى تندمج مع الأفق فلا يصبح بينهما فارق.
أغرب ما في دمشق لأي فلسطيني، أنها تذكرنا بفلسطين. لا أفهم كيف نتذكر شيئاً لم نره يوماً، وكيف أصلاً تذكرك مدينة بمدينة أو ببلد آخر.
أنا اخترت “كاسل” لأن فيها جبلاً يشبه قاسيون إلى حد ما، وجندياً أسطورياً يشبه جندينا المجهول. لا شك أنني صرت أقتنع أن أي مدينة لا جبل أو جندي فيها تصبح عرضة للغربة.
كلّما وقفت على شباكي هذا.. لمحت شيئاً جديداً، وتذكرت دمشق وفلسطين وقاسيون ومخيم اليرموك من جديد.
جلست قليلاً وراء الكومبيوتر، ورحت أقرأ عن تاريخ البلدة، ثم فكّرت بأن أبحث عن بلدتي في فلسطين أيضاً. لم أعرف كيف لم يخطر ذلك ببالي من قبل، فقد رسم جدي لي خريطة تقريبية لقريتنا من ذاكرته، ولم أفكر يوماً بالبحث عنها في خرائط غوغل ورؤية شوارعها من فوق. قال لي إنها أيضاً تقع على سفح جبل. وودت أن أفهم تلك العلاقة الغريبة بين الذكريات والجبال والمدن وأفكاري التي لا تتوقف عن الصياح داخل رأسي منذ الصباح. كتبت في نافذة البحث “فلسطين”، لكني لم أجدها. صدمني ذلك فعلاً، وبعد قليل من البحث هنا وهناك، اكتشفت أنهم قرروا إزالة اسمها من الخريطة واستبدالها باسم جديد.
بين التفكير والاستهجان والتنديد والشجب والرفض والحنين والمقاومة، وجدت نفسي أتمزق. إلا لساني فقد بقي متماسكاً وقادراً على الكلام إلى ما لا نهاية.
قطع إبراهيم تلك النوبة المتشنجة والمستنكرة لشطب اسم فلسطين. ها هو قد استيقظ أخيراً، ووجدت من أتحدث معه في هذا الصباح الجميل. لطالما كان إبراهيم بيت أسراري. فأنا أتحدث معه كل يوم. أراه ينظر إليّ بصمت عندما أتحدث، وتلمع عيونه بينما أحكي له عن طفولتي في المخيم، وأذكّره بأننا من أرض اسمها فلسطين. وبعد أن تتلألأ عيناه وهو يستمع إلي، يأخذني الحماس فأسرد له ما كان يخبرني به جدي عن قريتنا، وأحكي له عن دمشق والمخيّم وذكريات طفولتي.
وفي خضم ذلك السرد الجميل مع إبراهيم، استيقظت زوجتي وطلبت مني شراء بعض الأغراض من تحت، كأنها تعرف أنني أتحدث عن الماضي، فقررت إنقاذ الصغير مني. وفعلاً.. ركض إبراهيم نحوها، وعدت أتأمل الطريق من جديد وأنا أستمع إلى لائحة الأغراض تأتي من الغرفة المجاورة.
نزلت بسرعة إلى الطريق، وهناك رأيت السيد “ماتيوس”. رجل ألماني مسنّ، نتبادل الأحاديث معاً من وقت لآخر ونتحدث قليلاً عن الجو والعمل وأشياء أخرى. ابتسم وأومأ لي بيده أن أقترب، كأنه في شهية مفتوحة للحديث مثلي.
وما إن اقتربت منه، حتى بدأ هو الكلام. أخبرني أن أباه استمات في الدفاع عن المدينة، قبل أن يلحق بها دمار كامل وشامل في الحرب العالمية الثانية. ثم تحدّث عن حكايات إعادة الإعمار مما سمع وشاهد بنفسه، فهو رجل سبعيني عايش بداية الإعمار، وذاكرته معجونة بتراب هذه المدينة وتاريخها. بدأ يشير يميناً وشمالاً على كل أثر وزاوية في المدينة، كأنه يقرأ التاريخ عن ظهر قلب. ثم نظر إليّ وقال.. حدثني عن وطنك.
تمنيت فعلاً لو كان لي وطن أحكي لأحد عن إعادة إعماره لا عن حكايات الدمار والحرب والفقد فيه، بدلاً من أن أكون مجرّد ناقل للذكريات بين الأجيال.
كنت أخبرته ذات مرة أنني من دمشق وحدّثته عن أحوال الحرب هناك. لكنني اليوم فلسطيني الرغبة والانتماء والألم، وأريد أن أتحدث عن فلسطين فقط. فقلت له.. أنا من فلسطين.
سكت قليلاً، امتقع وجهه، واعتلى النكران ملامحه.. وسأل: “”Wie Bitte وتعني بالألمانية “عفواً؟” وبهذا السياق “لم أفهم عليك”. كان جليّاً بأن السيد ماتيوس لا يختلف عن “غوغل” كثيراً.. فهو في حالة استغباء تاريخي ينتشر كالجائحة.
فاجأني بهذا الاستنكار. ثم هزّ رأسه بجفاف ومشى في الاتجاه المغاير لطريقي.
مشيت حاملاً بعض الخيبة بضع خطوات، وهنا.. وقعت عيني على نقطة لامعة تضيء الطريق. كانت تلك النقطة عبارة عن أربع بلاطات ذهبية، مرصوفة مع حجارة الطريق ككتلة واحدة. صحيح أنني أمرّ فوق هذه البلاطات كل يوم. لكنني لم أرها بذلك الوضوح وهذا الجمال مثل هذا اليوم. على كل بلاطة اسم يهودي هاجر من هذه المدينة في تواريخ تعود إلى ما قبل أربعينات القرن الماضي. وعليها كلمة.. لا يستطيع محرّك بحث أو ذاكرة متغافل أن تنساها. إنها كلمة “بالستينا” أي فلسطين.
عدت للوراء.. وناديت السيد “ماتيوس” لأريه من أين أنا. وكيف اسم وطني موجود كجزء من تراث وطنه، وبشكل لا ينفصل أو يقل عن حكايات الأخوين “غريم” العالمية والتي يعرفها الجميع. اسم فلسطين مطبوع كوسام شرف في كثير من مدن ألمانيا. ولن أنتظر مزوّد خرائط أن يمحوها من التاريخ أو القلوب.
لم يدر السيد ماتيوس ظهره، وكأنه لم يسمع ندائي. فابتسمت ولم أناده مجدداً. لا يهمني إن قرأه أم لم يقرأه، فأنا أدرك بأنه يعرفه، بل وربما ساهم بتثبيت تلك البلاطات في أرض المدينة بنفسه.
الغريب في السبعين سنة الماضية بأن الناس صدقوا الحكايات الخرافية التي صدرت من هذه المدينة. بل وآمنوا بها. كما تحوّل كثير من تلك الحكايات إلى صور متحرّكة حفرت مكانها في القلوب والذكريات. ولكن لا أحد في هذا العالم، يريد أن يصدّق حكاية حقيقية واحدة.. تلمع كل يوم في أرض المدينة ذاتها، لتوثق من أين أتى من يدّعي امتلاك الأرض وملكية الاسم الجديد.
أكملت إلى السوبرماركت وأنا أفكر بنسختي الخاصة من “ليلى والذئب” والتي سأصدرها من ذات المدينة حتى يحبّها الجميع:
“وبعد أن سمع الصياد ليلى تستنجد من الذئب، دخل سريعاً وأمسك بها قبل أن تهرب. ساعد الذئب على التهامها، بل وصوّر الحادثة ووضعها على صفحته الاجتماعية. ويوماً بعد يوم.. تحوّل بيت الجدّة إلى بيت الذئب المهاب، وصار الذئب مختاراً ويعرف تاريخ المدينة. ولم يهبّ للثأر لليلى إلا والدها، لكنه قتل على يد الصياد قبل أن يصل إلى الذئب المسكين، فصار الصياد سفير سلام وتزوّج غصباً أم ليلى. وعاشت البلدة بحب وخير إلى الأبد.”
-
النهاية –