القصة الثالثة: وثيقة بلا سفر
“النداء الأخير للمغادرين على الرحلة رقم..”
هذا ما أسمعه كل يوم عشرات أو مئات المرات. قد لا تهمني أرقام الرحلات ولا وجهاتها. فأنا شخص لا يهتم بالجغرافيا أو بالمدن أو بالأخبار حتى. أطلسي يقتصر على كل التفاصيل الجغرافية التي أراها بين بيتي وعملي في هذا المطار.
أنا أحمد شحادة، أعمل هنا منذ عدة أعوام. مهمتي حمل الحقائب ونقل بضائع المسافرين. أعيش على راتب بسيط.. وعلى الكثير مما أحصل عليه من “بقشيش”، لهؤلاء الذين أحمل حقائبهم. هنا.. أنا صديق الجميع، فابتسامتي مستوطنة على وجهي طوال النهار، خفيف الحركة، كثير النشاط.. وتراني بكل مكان في ذات الوقت تقريباً.
أكثر ما يعجبني في هذا المطار، رؤية الطيارين عند وصولهم ببدلاتهم الأنيقة وخطواتهم الواثقة. تراهم يمشون على الأرض بخطوات مؤقتة، فمكانهم الطبيعي فوق الغيوم. لذا تكون كل خطوة فوق الأرض مدروسة ومحسوبة. مهما كنت مشغولاً، لا بد أن أقف وأتابع تلك الخطوات باهتمام، بل وأحياناً أعرض حمل حقائبهم الصغيرة، حتى وإن كانت صغيرة بما يكفي ليجرّوها بذات الثقة في خطواتهم. وهم بدورهم صاروا يعرفونني ويرونني باستمرار فيبتسمون لي بقمّة الاحترام والتقدير.
ذلك طبيعي.. وبدأت أتفهّم الحكاية وأتعايش معها كمرض مزمن تشخيصه “وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين”. لا أفهم لم يسمّونها وثيقة سفر إن كانت لا تسافر. المهمّة الوحيدة لهذه الوثيقة، أن تذكّرك بشيء لا تريد أن تتذكره. وهذا ما حدث معي كل ما قرأت اسم الوثيقة على الغلاف. قد أكون تأقلمت فعلاً بأنني ربّما أذوب أو أتلاشى أو أختفي أو أموت إن قطعت باب الجوازات. لذا لم أهتمّ مسبقاً بأنني لم أسافر من هذا البلد في حياتي، ولم أفكّر في الموضوع أساساً.
أموري المادية مقبولة، على الأقل أنا لا أحتاج أحداً. وبصراحة، أحب عملي كثيراً ولا أشعر بالنقص بسبب ما أقوم به. فأنا بطبيعتي أحب مساعدة الناس.. وعملي يقوم على هذا الأمر. ولكن..
منذ عام تقريباً، تغيّر كل شيء.
أذكر أن المطر تأخر في العام الماضي، إلى أن جاء “أمير”. لحظة أبصر النور، عند الساعة الرابعة وست وعشرين دقيقة أحسست برذاذ المطر ينقر على زجاج المستشفى ليحتفل معي بوجود شخص استثنائي في حياتي.
منذ رأيت طفلي أول مرّة.. شعرت بأنني أضم بين يديّ الإمبراطور الجديد للعالم. صار لدي يقين بأن هذا الولد.. هو الوريث الشرعي لكل ما تبقى في الحياة من مجد. وأنه شيء مختلف عن كل ما في هذا الوجود. غريب كيف يولد الحبّ على شكل طفل، فتجد نفسك أسيراً لمشاعر لا تفهم كيف أو من أين أتت. وتجد من يتربّع فوق قلبك ليحكمه كما يريد، وتسمّيه.. “أمير”!
ولكن.. وفي اليوم الأول صدف أنني ساعدت في نقل حقائب عائلة من المستوى الرفيع. كان من بين الحقائب سلّة أنيقة، حاولت أن أحملها.. فأسرعت بنت صغيرة من العائلة، وقالت إنها ستحملها بنفسها. نظرت داخل تلك السلّة فوجدت قطّة بيضاء جميلة. لم أحفل كثيراً بما رأيت، نقلت الحقائب بصمت وسرعة إلى نقطة الوزن وحجز المقاعد. وهناك.. أخرج الأب جوازات الأسرة وقال بصوت عال وهو يمنحني بقشيشاً سخياً:
“هذه جوازات العائلة.. وهذا جواز القطة”
أنا عادة أضع الحقائب على حزام الوزن، وأذهب سريعاً لأساعد مسافرين آخرين. لكنني هذه المرّة وقفت أتابع ماذا يحدث.
ابتسمت الموظفة للرجل الذي يحمل جواز سفر محترم، أصدرت لهم بطاقة الصعود للطائرة في ثوان مع نظرة حب وحنان للقطة وجواز سفرها. ثم انطلقت الأسرة بلا قيود نحو الجوازات، ابتسم لهم موظف الجوازات ودخلوا بسرعة إلى الجانب الآخر.
كانت تلك أول مرّة أدرك فيها بأن العالم لا ينتهي عند باب الجوازات، وأن تجاوز ذلك الباب متاح حتى للقطط.
في تلك اللحظة.. تذكرت وثيقتي، وأنني أورثتها ظلماً لابني. توقف خيالي عند كلمة “لاجئين”، كأنني لم أقرأها أو أسمعها آلاف المرات سابقاً. فتحطمت طائرته قبل أن تقلع، عندما تأكدت بأن القطة لديها جواز سفر يسافر، وأمير.. لن يصبح طيّاراً.. ولن يسافر.
صفعني هذا الحدث كثيراً. فأنا كنت قد تعايشت واستسلمت لتلك الحقيقة. يوماً بعد يوم.. صارت الفكرة تكبر في داخلي. ماذا فعلت بي يا أمير؟ لم أتيت إلى عالمي لتجعلني مهووساً لهذه الدرجة.
كل الحقائب التي حملتها بعد تلك اللحظة صارت أثقل. فأنا أكثر من حمل الحقائب في هذا المطار، وأكثر شخص له عائلة لم ولن تسافر.
شيئاً فشيئاً.. صرت أتخيّر الناس الذين أريد حمل الحقائب لهم. فرُحْت أبحث عن العجائز والناس الذين يسافرون غصباً وترى في عيونهم غربة بدأت قبل السفر. لأن هؤلاء الناس مجبرون على السفر، ربما لعلاج، أو للقاء أحبابهم أو للبحث عن عمل أو ما شابه ذلك. بينما لا أريد أن أساعد من يريدون السفر حول العالم لاكتشاف مجاهل الدنيا، وشطب دول من جدول أمنياتهم. نعم.. صرت حقوداً بعض الشيء. لا يوجد أحد أغلى من أمير. هو وحده من يستحق أن يسافر، وطالما لن يسافر، فلن أساعد أحداً.
بدأت هذه التصرفات تؤثر على عملي، صرت أحمل عدداً أقل من الحقائب، وبالتالي أحصل على بقشيش أقل. فللأسف.. أولئك الذين يسافرون للسياحة هم من يعطون البقشيش الأكبر.
تحدثت مع زوجتي في الأمر، وأخبرتني أن أمير هو من سيدفع ثمن تقصيري الآن، فهو أولى بكل النقود التي آخذها من هؤلاء الناس بدلاً من دفعها كبقشيش لهم في أنحاء الدنيا التي لا أعرفها. وهذا ما أعادني مجبراً على مساعدة الجميع وربّما أكثر من ذي قبل. جفّت ابتسامتي عن وجهي شيئاً فشيئاً ولم أعد أشعر بالرضا كما كنت.
صرت أقف كثيراً أمام زجاج الجوازات. أتابع المغادرين.. وتتعلّق عيناي بختم الخروج يقبّل صفحات جوازات سفرهم. الغريب أنني أسمع صوت كل ختم رغم الضجيج في المطار كأنه صفعة، أتابع لحظة ختم الجواز بالحركة البطيئة، وأراقب ألوان الجوازات المختلفة وليس عليها كلمة “لاجئ” ولا أمير.
وذات مرّة وأنا عائد لبيتي، توقفت لشراء بعض الأغراض كالعادة. ولكن هذه المرّة، اشتريت خريطة كبيرة للعالم. فأنا أريد أمير أن يعرف أن هناك عالم أكبر من مساحة بيتنا. أما المواضيع التي أفتحها مع زوجتي كل ليلة.. فكانت تقتصر على الفكرة ذاتها، ولكن أصيغها بشكل أسئلة مختلفة: مثل “ماذا بعد؟ كيف أغيّر هذه الحقيقة؟ لا أريد لأمير أن يبقى لاجئاً، ماذا إن أراد أمير أن يسافر؟..”. كانت كل الأسئلة.. تؤدي إلى حقيقة واحدة.. هي أن أمير سيبقى لاجئاً ولن يسافر ما لم يحدث شيء يفوق قدرتنا جميعاً.
وفي أحد الأيام.. كدت أطرد من عملي بعد أن سقطت على الأرض من شدّة الضحك. فكنت بجوار باب الجوازات، عندما قفز صرصور من إحدى الحقائب وعبر تحت باب الجوازات. لم يره أحد، ولم يوقفه أحد. لم يطلب منه أحد جواز سفر.. وها هو يعبر بكل حرية. لا بد من أن والد هذا الصرصور فخور أكثر مني. بدأت أفكر وأبتسم.. ثم ضحكت بصوت أعلى قليلاً، قبل أن أبدأ بالضحك بشكل هيستيري مع دموع وأجلس على الأرض. جاءني مراقب المطار وطلب مني التوقف، واعتذر أنه سيخرجني من المطار إن بقيت أضحك هكذا.
تطوّرت المسألة عندي حتى بدأت تتحول إلى عقدة، صرت أستمع إلى الأخبار وأنا لست ذلك الشخص. وفي اللحظة التي قررت الاستماع فيها للمستجدات حول العالم.. سمعت عن فيروس جديد اسمه “كورونا”. ثم تطوّرت الأمور بسرعة حتى وصلتنا أخبار بأن هذا المطار سوف يُغلَق قريباً.. وأنه سيتم تعليق جميع الرحلات وأننا سنبقى بلا عمل لفترة.. جن جنون المطار لبضعة أيام قبل الموعد النهائي للإغلاق. ثم تغيّر كل شيء. جئت في اليوم التالي لأنهي بعض الأعمال ونتفق على ما سوف يقوم به موظفو المطار في فترة الإغلاق. نظرت يومها إلى قسم الجوازات فلم أر أحداً. لأول مرّة صمم فيها ذلك الباب.. كان باب الجوازات مفتوحاً للجميع على مصراعيه، ولم يكن أحد هناك ليوقفك إن أردت الدخول. ركضت بأسرع ما لدي من قوّة وعبرت ذلك الباب كمتسابق وصل إلى خط النهاية. وقفت مكان ختم الجوازات ونظرت حولي وأنا أفكر.. أنا لم أتلاشى أو أختفي أو أنتهي. أنا أقف هنا بكامل قواي العقلية، بجسدي لا بخيالي.. بعيوني لا بنظراتي، شأني شأن أي حامل لجواز سفر آخر. لأول مرة في حياتي أشعر بأنني لا أختلف عن أحد في طموح السفر، بأن أمير قادر أيضاً على إكمال إرث أبيه والوصول إلى هنا يوماً! وعلى الرغم من كرهي الشديد لفيروس كورونا.. الذي أذاني في عملي وسبب لي الرعب على عائلتي.. وأصاب بعضاً من جيراني وأصدقائي.. ولكن السؤال الأبرز في بالي كان يتردد إلي في كل دقيقة منذ وقفت في قسم الجوازات وحتى اليوم:
لم انتظر العالم فيروساً، ليجعل فيه الجوازات كلها لا تسافر.. مثل وثيقتي؟
-
النهاية –