ويتأمّل الحبُّ نفسَه…- عفاف ابراهيم

Share

عفاف ابراهيم

بعد انتهاء المراسيم وانطفاء الأضواء وخلع الزينات من أشقر وأحمر، يظهر كلّ شيء على حقيقته، في قلب وحدته، في عريه الكامل، في كنه جوهره.. وفِي طعمه البكر النقي كأوّل قطفةٍ دون إضافات

لا يعرف الحبّ الرموش الاصطناعية ولا أحمر الشفاه ولا أيّ مظهر من مظاهر الأنوثة المتضخّمة غير الحقيقية، والتي لا تجذب إِلَّا المفرط من الذكورة، ويُغيّب فيها الكائن الحقيقي من الجنسين… تتقزّم حينها هذه الطاقة ضمن إطار محدود لا تلبث أن تنعدم قبل وصولها مسارها الحرّ اللامتناهي الأبعاد، كأبعاد هذا الكون اللامحدود.

لا يعرف الحبّ التفاخر، وليس للحبّ عضلات، بل على العكس هو يستهلك كلّ مسامه وخلاياه ليذوب ويعاود النموّ من لبّ ذاته.

لا يعرف الحبّ الطعام أو الشراب، لا الخمر ولا التدخين. يقتات الحبّ من نفسه وينشطر ضمن متوالياتٍ لا تكنُّ ولا تهدأ إلى أن يسْكَر ويطوف من الداخل فيغسل نفسه بنفسه في هذا الغَمر.

لا يعرف الحبّ التمدّد أو الهلام والميوعة، بل يتكثّف نحو مركزه، ويبلور حلاوة الدنيا في نواة ذرّة من خليّة سداسيّة، كالتي تميّز بلّورات العسل في عالم النحل…

لا يعرف الحبّ الاستحواذ، ولا يهمّه ما في الخارج من إعجابٍ و “لايكات”، ولا يعنيه الشعر ولا القصائد العصماء، بل يختلي كلّ مساءٍ ليتلو لنفسه أسفار الصمت على نور قنديل روح وحدته، التي تضيء له عيوبه كما مزاياه…

لا يقول الحبّ ماذا سيفعل .. الحبُّ هو الفعل .. ولا يعرف التهديد بما سيفعل .. الحبّ هو هذا السلام الذي يطبق فيه على نفسه في سكينة الوجود ويرتاح..

لا يعرف الحبّ المواجهة. هو دائم الهروب من عين المحبوب، لأنّه إن حدث والتقاها مرّةً، سينصهر  فجأة في عزّ اللحظة ويصيرُ لمعةَ فرحٍ أو دمعةً في قلب المقل… ويتلاشى حاله في الحال.

لا يعرف الحبّ الكلام … ولا الخطابات الملتهبة. هو موسيقى الكون تعزف فيك اللحظة، وتتأهّب كاملةً في أعلى نوتة من أرفع وتر في الكمان، لتعصر روحك في قطرة تنسلها من جذور أقدام الأرض، لا من جذورك فحسب، ولتعود مطلقةً إياها حيّةً ترزق، نعمة في فضاءات لا متناهية المدارات، ضمن حواريّة متكرّرة الثنائيّة (ثنائيّة الموت في حضن المحبوب والخلق الجديد من ثناياه)… هو تقمّص دائم أبديّ للحضور..

لا يعرف الحبّ التساؤل.. هو نفسه الجواب الفطريّ الحاضر للزمن بكلّ تجلّياته، دون أيّ معرفة خارج وعيه لكينونته فحسب.

لا يركض الحبّ وراء أحد، ولا يلهث أمام المغريات وما يعتقد البعض أنه أسباب السعادة… الحبّ هو هذا السعي الدائم لتحقيق ذاته لا أكثر ولا أقلّ…

لا يمكن لأحدٍ تعريف الحبّ، لأنّه طرف المعادلة المجهول الذي نبحث عنه.. لأنّه الآتي .. والغاية .. ولأنّه لا يعرف التمام،  طالما حامله على قيد الحياة ونوايا الحبّ.. هو هذا السراب الذي يوجّه عطشنا إلى واحات الارتواء القادم.. هو هذا الخيط الرفيع من الضباب الذي لا نستطيع القبض عليه إِلَّا في جموح الخيال والحلم، وإن حدث وأمسكناه، ينقلب بكلّ رقّته وشفافيته إلى طاقة عظيمة تواجه التحدّيات، كمعجزة تفوق جموح الخيال الذي ولّده أو الذي قبض عليه.

لا يعرف الحبُّ الملكيّة ولا صكوك الغفران، لأنّه ليس ملكاً لأحد ولا للمحبوب حتى… هو الطريق الذي نمضي دوماً به،  ولا ينتهي مسيره، حيث في اكتماله نهايته..

الحبّ هو باب السِّحْر الذي كلّما دخلنا فيه خرجنا منه لعالمٍ آخر أوسع .. مدهشٍ ومغرٍ أكثر .. عالم متعدّد ومشرّع الأبواب اللانهائيّة الأشكال والألوان والعطر.

الحبّ هو هذا الطيف الواسع الذي لا ينتصر به لا الأبيض ولا الأسود، لأنهما في الحبّ ينتميان لتبادل بعضيهما، وكلّما أعطى أحدهما من ذاته للآخر، أعطاه الكون أكثر، وكلّما نما بالآخر، نما به الآخر أكثر، وفتحت الحياة زاوية ذراعيها لاحتضانه. هو هذي الهبة من النعمة الكليّة التي لا يمكن تعلّمها أو تصنّعها، لأنّها عضويّة ‘from within’ كالحسّ من العصب، كالدفء من قلب الشعاع. كالشعاع من الضوء، كالضوء من الشمس.

فليعذرني الحبّ، وأنتم.

مَن أنا لأكتب عنه؟! .. أنا التي شُبّه دوماً لها، والتي لا تستقرّ ولا تحيا إِلَّا بالآتي

0
0