أورشليم القدس، مقدسة حسب المزاج
لا يوجد مدينة في العالم لها تاريخ معقد وإشكالي جدّاً مثل القدس (أورشليم أو أورسالم)، فالمكانة التي تحتلها بين أتباع الديانات الإبراهيمية لا تشبهها مكانة ثانية، وتكاد تكون دون منازعٍ، مدينة الله المقدسة، وبوابته إلى السماء؛ ولأجل ذلك لم تعرف هذه المدينةُ الحزينةُ الراحةَ والسَّلام منذ ما يقارب ثلاثة آلاف عام. ولكن؛ لماذا وكيف وأين ومتى أصبحت القدس صاحبة هذه المكانة؟ وما رأي العلم بذلك؟ وما دور المكتشفات الأثريَّة؟
في هذا المقال سنحاول عرض السياق التَّاريخي للمنطقة عموماً ولمدينة القدس خصوصاً، وسنربطه بآخر الاكتشافات الأثريَّة والنظريات العلميَّة حول المدينة، وأيضاً سنورد ما ذُكِر في النصوص الدينيَّة.
تبعاً للتوراة، فإنَّ القصة بدأت عندما دخل الملك داود إلى حصن “يبوس”، الذي كان يقع في قرية “سلوان” اليبوسية الملاصقة لأورسالم، والتي أصبحت فيما بعد تسمى “أورشالم” أو “أورشاليم”؛ وذلك لأنَّ بعض قبائل المنطقة كانت عند النطق تستبدل حرف السين بالشين.
اتخذ داود من حصن “يبوس” بيتاً له، ووضع يده على المنطقة الواقعة ما بين بيت داود -سُمّي بذلك لاحقاً- وجبل “موريا”؛ وبذلك دانت له أورشليم، وأصبحت عاصمة مملكته العظيمة.
مسألة المملكة (الداوديَّة/ السليمانيَّة) العظيمة هي المحور العام الذي تدور حوله كل الرواية التوراتيَّة التي تستفيض في شرح نقاط قوة هذه الدَّولة التي امتدت على مساحات شاسعة، وهذا ما يجعل منها مرحلة من المراحل السياسيَّة والثّقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بالغة الأهميَّة في تاريخ المنطقة كلها. ولكن أين هي؟ ولماذا لم نستطع أن نجد آثارها إلى اليوم؟
إذا سألتك عزيزي القارئ ما رأيك بالإسكندر المقدوني أو الإسكندر الأكبر، وما رأيك بالملك سليمان؟ ستجيب فوراً أنهما كانا ملكين عظيمين في التاريخ. وإذا طلبت منك الدليل، فإنَّه بإمكانك تقديم عشرات بل مئات الأدلة التاريخيَّة والأثريَّة على وجودِ إمبراطوريَّة عظيمة أسسها الإسكندر المقدوني في مرحلة ما قبل التاريخ، أوَّلها هو عدد المدن التي سميت بالإسكندرية حول العالم نسبةً إلى هذا الرجل العظيم، أمَّا أدلة وجود مملكة سليمان فهي دليلٌ واحدٌ فقط، التوراة.
بناءً على الاكتشافات الأثريَّة والبحث العلمي التَّاريخي، فإنَّ هذه المنطقة كانت على مرِّ التاريخ وبسبب موقعها الجغرافي الفريد، ساحةً للنزال بين القوى العظمى في العالم. وكانت البداية مع مصر الفرعونيَّة، تلك الإمبراطورية العظيمة والغنية التي بدأت بصورةٍ طبيعيَّةٍ بالتوسع مثلها مثل أيّة إمبراطورية أخرى في العالم. وكان التوسع نحو الشرق الخصيب عبرَ بوابةِ أرض كنعان هو الطَّريق الأسهل بعد بسط سيطرتها على كامل وادي النيل، فأخضعت ممالك أرض كنعان لسيطرتها، وبذلك انفردت وحدها في الساحة، وحينها سجل التاريخ وقوع أوَّل معركة كبرى بين جيشين حقيقيين في سهل “مجدو” في فلسطين، وسمّيت باسمه، وكانت بين تحالف الممالك الكنعانيَّة الثائرة على الهيمنة المصرية بقيادة الملك “قادش”، وبين الجيش الفرعوني بقيادة “تحتمس الثالث”، وكانت أوَّل معركة في التاريخ يُستخدم فيها (القوس المركب)، وهي أيضاً أوَّل معركة في التاريخ يُحصى فيها عدد القتلى.
انتهت المعركة بانتصار القوات المصريَّة على القوات الكنعانيَّة، وحُصِرت هذه القوات في “مجدو” لمدةٍ طويلةٍ، وقد فتحت هذه المعركة باب الشام على مصراعيه لمصر، واستطاع “تحتمس” بعدها من إيصال الإمبراطوريَّة المصرية في عهده إلى أقصى اتساع لها. هذه المعركة وثقت جيداً في الكتابات والنقوش الهيروغليفيَّة على جدران معبد الكرنك، وأيضاً في الآثار الفرعونيَّة المُكتشفة في معظم أراضي الشام. ومن الجدير ذكره أن النفوذ المصري بدأ بالانحسار فيما بعد مع تعاظم قوى الإمبراطوريات المتعاقبة التي ظهرت في بلاد الرافدين.
وحتى نميز بين كلّ من الإمبراطوريَّة والمملكة لا بدَّ من الإشارة إلى مسألةٍ مهمةٍ. الممالك في الشرق الخصيب، مثلها مثل معظم الممالك في العالم، في الفترة ما بين نهاية العصر البرونزي وحتى اليوم، كانت موجودة في المدن الكبرى جميعها، فمثلاً كانت لدينا مملكة في صور، وفي جبيل، وعكو (عكا)، ويافو (يافا)، وماري، وإيبلا، وبالميرا، وقيسارية، ودمشق… إلخ؛ أي أنَّ هذه الممالك كانت عبارة عن المدن الكبيرة وما حولها، وفي معظم الأحوال كانت بحالة نزاعٍ دائمٍ فيما بينها، الأمر الذي سهل عملية السيطرة عليها من قبل الإمبراطوريات.
الإمبراطوريَّة، مثل الإمبراطورية المصريَّة أو الفارسيَّة أو البابليَّة أو الكلدانيَّة ثمَّ الرومانيَّة، كانت بدايةً مملكة صغيرة في مدينة وما حولها، وتزامناً مع وصول شخصية قيادية ذات رؤية توسعية إلى سدة الحكم إضافةً إلى امتلاكها الموارد اللازمة، بدأت بالتوسع في الإنتاج العسكري، وتنظيم جيش أصبح فيما بعد أداتها لإخضاع بقية الممالك المجاورة، ثمَّ الأبعد فالأبعد وصولاً لأقصى توسعٍ لها يُمكن أن تصله. لتعود فتبدأ بالتقهقر أمام ضربات جيش إمبراطوريَّة ناشئة جديد. وفي هذا الوقت كانت الممالك الصغيرة بملوكها المحليين الصغار، عادةً ما تدين بالولاء للإمبراطور الذي استطاع كسب المعركة الأخيرة وبذلك يصبح الملك المحلي بمثابة المحافظ أو ممثل للإمبراطور، مقابل ضمان بقائه على سدة الحكم هو وأبناؤه من بعده.
ما نريد قوله إنَّه كان هناك دائماً صراع بين إمبراطوريتين كبيرتين على هذه المنطقة وكان هذا الصراع غالباً بين الإمبراطوريَّة المصريَّة الفرعونيَّة، وبين إمبراطوريات ما بين النهرين، ثمَّ ظهرت “فارس” كقوةٍ عظمى، وكان الصراع بين إمبراطوريات بلاد ما بين النهرين وفارس، له تأثير في التحالفات القائمة مع الممالك المحلية في تلك الفترة، وصولاً إلى حلول الرومان محل المصريين، وبدء الصراع الطويل ما بينهم وبين فارس على أرض الهلال الخصيب.
هذه الأحداث جميعها وبتسلسلها الزمني موثقةٌ بصورةٍ ممتازة وتفصيليَّةٍ في مكتبات هذه الممالك ووثائقها ومنحوتاتها، وفي منتجاتها الثقافيَّة كلها. ولم يظهر فيها أيّ ذِكرٍ لإمبراطورية عظمى كان يقودها ملك اسمه داود خلفه ابنه سليمان من بعده.
خطورة الموضوع تكمن في أنَّ الباحثين التاريخين قد ابتدعوا مرحلةً تاريخيّةً اسمها مرحلة (العهد المقدس/ Biblical period of history)، وهي تعود لقرابة 1200 ما قبل الميلاد؛ أي بالفترة التي تقول التوراة إنَّ داود قد أنشأ إمبراطورتيه العظيمة فيها.
وعلى الرغم من أنَّ هذه الفترة تكاد تُعدُّ لحظة في التاريخ الفلسطيني الطويل، غيرَ أنَّ الدِّراسات التوراتيَّة المكثفة جعلتها محفورة بعمقٍ في وجدان المجتمعات الغربية، وجعلَت هذه المرحلة هي تاريخ المنطقة فقط، وتجاهلت وحقّرت -عمداً- التاريخ الفلسطيني وصوّرته على أنَّه تاريخٌ همجيٌ بعيدٌ عن الحضارة أو الإنتاج الحضاري، لتحصر الإنتاج الحضاري فقط بهذه المرحلة التاريخيَّة البسيطة. وإلى يومنا هذا ما تزال سلطات الاحتلال الأثرية، عندما تكتشف في المنطقة آثاراً جديدةً تعود إلى نهاية العصر البرونزي الحديث وبداية العصر الحديدي، ويوجد دليل على أنها آثار يهودية، تعدُّها دليلاً على وجود مملكة داود، متجاهلين أنَّها حتى وإن كانت بالفعل تعود لمملكة داود المزعومة؛ فإنه، في الوقت نفسه، تُعدُّ جزءاً من التاريخ الفلسطيني القديم الممتد منذ ما يزيد عن عشرة آلاف سنة. ولكن تواطئ علماء الآثار والتاريخ جعل هذه الحقبة تسمى حقبة إسرائيل أو مملكة داود أو حقبة العهد أو حتى حقبة مملكة يهودا والسامرة، وأُخرِجت من سياقها التاريخي وعَدّت كل ما كان قبلها وكل ما أتى بعدها بلا قيمة، لتكون الإشعاع الحضاري الوحيد الذي صنعته الأمة اليهودية المزعومة واندثرت من بعدها. وهذا كله دون دليل واحد علمي على وجود هذه الأمة أو هذه المملكة، وأيضاً بما يتعارض مع الأدلة المكتشفة والتي تثبت عكس هذا الكلام تماماً.
ففي الوقت الذي حرصت التوراة فيه على إظهار غُليات البطل الفلستيني الذي ينتمي إلى الشعب الفلستي القادم من وراء البحار، والذي استوطن في فلسطين، ولاحقاً اندمج اندماجاً كاملاً في مجتمعها الكنعاني
هذه الصورة، على سبيل المثال، تعاكس تماماً المكتشفات الأثريَّة التي تؤكد وتثبت أنَّ مدن الفلستيين والكنعانيين في المناطق التي تقول التوراة أنَّها كانت تحت سيطرتهم كانت مدناً منظمة حديثة، وتتمتع بطرازٍ معماري متقدمٍ، في حين أنَّ المدن التي تقول التوراة أنَّها كانت تحت حكم مملكة داود في الفترة نفسها كانت عبارة عن قرى صغيرة مبعثرة، ودون أي تنظيمٍ أو أدلةٍ حضاريَّة، وفي هذا السياق يقول ادوارد سعيد في نهاية كتابه لوم الضحية، نبذة عن الشعب الفلسطيني إنَّ فلسطين كانت وطناً لحضارة لافتة للنظر لقرون طويلة قبل هجرة القبائل العبرية إليها، وأنَّ طبيعة هذه الحضارة وإنجازاتها تُذكر في جمل قليلة بينما فترة الهجرة الإسرائيلية قد تركت لإسرائيل دون أي تعليق؛ إذ يركز الباحثون على تاريخ فلسطين منذ الفتح العربي والإسلامي في القرن السابع الميلادي حتى الوقت الحاضر، أمَّا المرحلة البرونزية المتأخرة بالتحديد حتى الفترة الرومانية، فهي بحاجة إلى استعادتها واعطائها صوتا في تاريخ فلسطين.
أين هي القدس من كل هذه الأحداث؟
نعلم أنَّها في مرحلة ما بعد صلب يسوع فيها ثمَّ وقوعها تحت الحكم العربي قد أصبحت مدينة ذات مكانة عالية دينيّاً واجتماعياً. ولكن قبل ذلك، وخلال الصراع التاريخي السياسي والاقتصادي الذي استمر لآلاف السنين، أين كانت القدس من كل هذا؟
فالقدس إذاً، والبلدات المحيطة بها جميعها، كانت بلدات صغيرة تعمل في الزراعة وتربية الماشية وبعض التجارة البسيطة، وكانت تتبع ممالك المدن القريبة التي تسيطر عليها، وربما بالفعل، في يومٍ من الأيام، استطاع شخص اسمه داود من القادة العسكريين المحليين أن ينشئ مملكة صغيرة في المنطقة؛ ولكنها حتماً لم تكن بالعظمة التي وصفت بها في التوراة؛ بل كانت مملكة صغيرة بدائيَّة كما جميع الممالك المشابهة والمجاورة لها.
أمَّا لماذا القدس؟ ومن أين استطاعت أن تحوز هذه القدسيَّة؟
فالموضوع لا يتعلق أبداً بالتوراة أو كونها كانت عاصمة داود وسليمان من بعده، فقد كانت القدس وبحسب التوراة نفسها عاصمة لمملكة كنعانية صغيرة، ملكها رجل صالح اسمه “ملكي صادق“، وقد وصفته التوراة بأنَّه ملك البِر وسالم (القدس)، وقد التقى هذا الملك الصالح بإبراهيم وهو عائدٌ من المعركة، ودفع له إبراهيم ضريبة العشر، في حين أطعمه ملكي صادق خبزاً وسقاه خمراً، الأمر الذي سيترك أثراً عميقاً في المسيحية فيما بعد، ليصبح الخبز لحم المسيح والخمر دمه.
ولكن ما المميز في “ملكي صادق”، غير أنه كان رجلاً صالحاً؟
باختصار؛ ملكي صادق كان أوَّل ملك في التاريخ، يجمع بيده السلطة السياسيَّة والسلطة الدينيَّة بوقت واحد، وعلى هذا الأساس وكونه كان الملك وبالوقت ذاته كان الكاهن الأعلى، فقد أصبحت سالم أو أورسالم مدينة مقدسة إلى اليوم.
أمَّا كيف تمّ التلاعب بالتاريخ الفلسطيني وكيف غُيّب؟ فهذا ما سنتحدث عنه في العدد القادم.
للاستزادة:
العهد القديم مجملاً وسفر صموئيل الأول كاملاً.
روجيه غارودي- الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية.
كيث وايتلام- اختلاق إسرائيل القديمة.
إيلان هاليفي- المسألة اليهودية- القبيلة، الشريعة والمكان.
إدوارد سعيد وكريستوفر هيتشنز- لوم الضحايا. المنح الدراسية المزيفة والمسألة الفلسطينية.
0 Comment
أولاً: بل ب عدم تغيير اسم أورشليم وهو الإسم اآلآرامي الحقيقي إنما اللفظ غلط ويجبُ أن يُلفظ أورِشْليم*، وهو مؤلَّفٌ من ٬كلمتين آراميتين: أور وتعني بلدة وشْليمْ تعني سلام.
ثانياً: ٬ملك بمعناه القديم لبى مرادفاً لملك الدولة أو الأمة بمعناه الحديث. آلملك قديماً كان يُطلقُ على رئس القبيلة وداود( إذا انوُجِدَ) بل يكون أحد رؤساء تلك القبائل اليهودية. ولا تزال بعض العشائر الآشورية الآرامية تطلق على رئيسها إسم الملك، وهي عادة قديمة جداً
ثالثاً: لم يكن هناك إستقلال سياسي لمدينة السامرة(٬التي سُمِّيَت مملكة إسرائيل) ولا لاورشليم (التي سُمّثيَت مملكة يهودا) لا بل :أنَّ هاتان المدينتان كانتا جزءاً من منظومة الحكم الآرامي الكنعاني بالإستقلال الإداري للمدن. فاللامركزية ،حسب المؤرخ فراس السواح طبقها الآراميون والكنعانيون لأنَّ الإداريون المحليون هم أقرب الناس لعواطف الشعب المعيشيَّة، وقراراتهم أسلم في حلِّ مشاكلهم.
جورج يونان
younangeorge@hotmail.com
الأصح لأن الإداريين المحليين
حضرة الأمين العزيز جورج يونان جزيل الاحترام
اتفق مع ملاحظات حضرتك بشكل كامل، وحضرتك شرحتها تماماً كما قصدتها
فيما يتعلق باسم اورسالم أو أورشليم أو فيما يتعلق بلفظ حرفي السين والشين فلقد حاولت قدر الامكان التفادي من الدخول في تفاصيل هذه المسألة لأن كل واحدة منها تشكل بحث بحد ذاته وينتج عنه نتائج مهمة، ومتأكد أن حضرتك تدرك جيداً مدى تشعب الموضوع، لذلك حاولت الاشارة من بعيد بدون الدخول في التفاصيل لتجنيب القارئ التشتيت في المواضيع المطروحة.
أما فيما يتعلق بالمقصود بالملك فهو تماماً كما وضحت حضرتك، وربما كان من الأفضل لو أنني فصلت هذه النقطة بشكل أكبر لتفادي اللبس، حيث أن الحديث عن قرى وبلدات صغيرة ومتواضعة لا ينسجم مع لفظ المملكة وسأحاول شرح هذه المسألة في الأجزاء القادمة مع جزيل الشكر لاضافتك القيمة
لتحي سوريا
[…] التي أسكتت فيها أصوات المشككين بروايتها، ووضحنا في الجزء الثاني من السلسلة ماهية هذه الرواية ومكوناتها ومكانتها تبعاً […]