لم تتفق الأطراف المتصارعة على آلية لوصول المساعدات إلى المناطق السورية المتضررة. وتبدو المبررات واهية أمام الوقت الضئيل الذي يمتلكه المدفونون تحت الركام ليبقوا على قيد الحياة. هكذا اكتشف السوريون أنهم يواجهون مصيرهم وأن عليهم انتظار حلول السماء بعدما انقلبت عليهم الأرض، وتحولت مأساتهم إلى مقاطع فيديو على اليوتيوب همّها حصد الاعجابات والاشتراكات في الأقنية من أجل جلب الإعلانات من غوغل وقبض آلاف الدولارات شهرياً.
بعد أيام من الزلزال، لم تكن المساعدات العربية والدولية بالمستوى المطلوب، بل إن عدة شاحنات من الأمم المتحدة كانت من ضمن برنامج المساعدات قبل الزلزال، وصلت وحيدة وهي لا تغني ولا تثمر أمام آلاف الضحايا والمفقودين والجرحى والمشردين. هيئة تحرير الشام أو جبهة النصرة، رفضت فتح المعابر لاستقبال مساعدات الدولة السورية، ولم تتدخل تركيا من أجل تغيير موقفها. ما يسمى بالحكومة المؤقتة، رفضت دخول مساعدات مما يسمى بالإدارة الذاتية، حتى لا تُغضب أنقرا التي تدفع رواتب وزراء هذه الحكومة وتستقبلهم في فنادقها!
ولأن كمية الأوكسجين تحت الركام لا تكفي حتى تحل هذه الإشكالات، كان على المحاصرين تحت الأنقاض أن يموتوا، وأن يشعروا بالراحة الأبدية بعد سنوات طوال من الفقر وشظف العيش والمرض والتشرد. تُرى أي قدرية يمكن أن تبرمج كل هذه الكوارث بشكلها المتسلسل وغير المنطقي؟ هل لعنة الجغرافيا حقاً، أم عدم تقديرنا لقيمة هذه الجغرافيا التي لعنتنا لأننا لم نقدّر قيمتها كما يجب؟
ما هو مؤكد، وجود آلاف الضحايا في القرى النائية التي لم تصل إليها أية فرق إنقاذ أو مساعدات، وبالتالي فإن الحديث عن ستة آلاف من القتلى، سيتضاعف مرات عدة في الأيام القادمة، حيث الناس يحفرون بأظافرهم وبمعدات الفلاحة البسيطة، لكن ببطء شديد لا يبشر بانتشال عدد كبير ممن سيكونون بحكم الميتين نتيجة الإعلان عن انتهاء عمليات البحث عن ناجين. نعم الإنسان لا يستطيع احتمال البرد والعطش وانعدام الأوكسجين لعدة أيام، وفرق الإنقاذ لن تتمكن من الدخول قبل أن يتفق السياسيون والجماعات المسلحة والدول التي تقف وراءها، على آلية تُغلب فيها الوطنية السورية على الاعتبارات الأخرى.
لقد تُرك السوريون لمصيرهم. وعيهم استقبال هذا المصير بمنتهى الرضا والسعادة الأبدية التي ستنقذهم لعنة الأرض التي انتفضت بعد أن شعرت بالمهانة والاستهتار. فالزلزال لم يصب تركيا، ولم يمت إلا أعداد قليلة من الأتراك. من لواء اسكندرون وكيليكيا إلى حلب واللاذقية وادلب وطرطوس، كان الموتى سوريون تجاوزوا تسميات الانسلاخ في “هاتاي”، وعبروا خلافات الحياة حتى يتوحدوا أمام الموت بلا إرادة منهم، بل لأن الجغرافيا لم تعد تحتمل عقوق الأبناء.
ربما تكون القدرية غير المفهومة، هي من سيّرت الأحداث بهذا الشكل، وربما يدفع السوريون اليوم ضريبة عن الأمة بأكملها، علّها تصحو وتستيقظ، بعدما اشتدّ الخطب وغاصت به الركبُ. من مفارقات الكارثة، أن يعود جريان المياه إلى الفرات ودجلة والخابور، وأن تنطلق قوافل المساعدات من جميع المناطق السورية بمبادرات أهلية بلا حسابات طائفية أو سياسية. أن تهتز عمان وبيروت وبغداد لاهتزاز دمشق، وأن تتدخل الطبيعة من أجل تصحيح المسار وإن كان الثمن الكثير من الضحايا الذين لو أتيح الكلام لهم الآن، لطالبونا بإعادة النظر بكل شيء.