أعتقد إن المرة الأولى التي التقيت فيها الأمين الراحل هنري حاماتي كانت سنة 1968، خلال رحلة للطلاب إلى مزرعة كفرذبيان. المرة الثانية، كانت حين ارتبط اسمه مع إصداره العدد الأول من مجلة فكر. بعد ذلك، تعرفت إلى بكره موسى، ونمت بيننا صداقة عميقة بين 1973 و1975، حين فرّقتنا الحرب الأهلية في لبنان.
في المرة الأولى التي زرتهم فيها في بيتهم، بالقرب من مار إلياس، ذُهلت من صغر مساحته وبساطة أثاثه. كان مكونا من غرفتين صغيرتين وشبه مطبخ وحمام وغرفة جلوس، في ركن منها مقعدان، وفي ركن آخر طاولة سفرة. كان البيت صغيرًا، وكان يضج بالفقر، ولكنه كان يضج بالحب والفكر، وبالفرح أيضا.
على طاولة السفرة، كان هنري حاماتي يكتب. يكتب والبيت يضج بالزوار، أو بعبثنا وجلبتنا، أولاده: موسى وغيث وبسام ومي، والأصدقاء والرفقاء جورج وجورج ومفيد وأنا. كان يكتب وكأنه في عالم آخر، لا يرى فيه فقرًا، ولا يسمع ضجيجا. كان يبدأ بكتابة مقال أو افتتاحية أو بحث، فلا ينهض قبل أن ينتهي. كان يكتب بسرعة مذهلة، وحين ينتهي من المقال يدفع به إلى المطبعة دونما حاجة لمراجعة.
كنا نتحلق حول طاولة الطعام، هذا إذا توفقت أم موسى بدزينة بيض وربطة خبز، فتقلي دزينة البيض في صينية كبيرة. وكان واحدنا يأخذ لقمة، ثم يقطع قطعة خبز ويرميها على البيض المقلي، ليحجز لقمة ثانية قبل أن تطير الصينية، صارخا، “هذه لي”، فيعلو الصراخ والضحك، وتشتد المنافسة.
في خريف 1973، التحقتُ بالجامعة الأميركية. بعد فترة، استدعيت أنا وعدد كبير من الطلاب الجامعيين إلى لقاء مع عميد الإذاعة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الرفيق هنري حاماتي.
كان اللقاء في بيت الطلبة بالقرب من ساحة الدباس ومباشرة إلى الجهة الشرقية، مما أصبح فيما بعد خط التماس. في ذلك اللقاء، الذي ضم ما لا يقل عن الخمسين طالبا جامعيا، بلّغنا عميد الإذاعة قراره بتعييننا مذيعين في اللجنة الإذاعية المركزية. كانت مهمتنا حضور صف إذاعي يعطيه العميد مساء كل إثنين، ومن ثم إعطاء ما نقدر عليه من حلقات إذاعية في جميع مناطق الكيان اللبناني. كُلفت بتغطية ثلاث حلقات، وأعتقد ان هذا هو المعدل العام الذي أعطاه كل منا في تلك المجموعة الرائعة من الطلبة الجامعيين.
تجربة اللجنة الإذاعية المركزية، كانت تجربة مهمة في تاريخ الحزب. فلنرجع بالتسلسل التاريخي خطوة إلى الوراء؛ بين 1969 و1973، مرّ الحزب بمخاض فكري وسياسي وإداري كبير، نتج عنه كم هائل من الكتابات، التي حاولت ربط فكر الحزب بالأفكار اليسارية، وحتى الشيوعية والعروبية، تمهيدا لنقله من معسكر اليمين المحلي إلى معسكر اليسار الدولي. هذا المخاض أدى إلى بلبلة إدارية تميزت باستقالات مسؤولين وقيام تنظيمات سرية داخلية، فعمّت الفوضى وشُل العمل الحزبي إلى حد كبير.
في ذلك الجو المتشنج، وُلِدت اللجنة الإذاعية المركزية. تخيّل جهازًا من الطلاب الجامعيين يقوده مفكر وخطيب مفوّه يجتمع وإياهم مرة في الأسبوع، فيحلل الأحداث من منطلق المنهج القومي الاجتماعي، ويناقشهم بها، ثم ينطلقون إلى جميع المناطق اللبنانية، فيغطون ما لا يقل عن المائة والخمسين حلقة كل أسبوع. لقد كان لهذه اللجنة أثر كبير في المد الشعبي الذي حصده الحزب سنة 1974، والذي أهّله لأن يلعب دورا كبيرا في تكوين جبهة الرفض التي انطلقت في أعقاب خطاب عرفات في منظمة الأمم المتحدة في نهاية ذلك العام.
كان هنري حاماتي رائيا بامتياز كما كان عنيفا بامتياز، وهذا ما اجتذب عداوات كثيرة له. في بيان جبهة الرفض الذي ألقاه رئيس الحزب آنذاك، الأمين يوسف الأشقر، حذر من السلم الإسرائيلي الذي سيدخل مناهجنا المدرسية ويقرر ما يتعلمه أولادنا. كذلك كان هو من أطلق على منظمة فتح لقب “الكتائب الفلسطينية”. أما الذي يؤلف كتابا سنة 1979 بعنوان “التضامن العربي الإسرائيلي على لبنان وفلسطين” فلن يأمن سهام الغدر.
استلم هنري حاماتي عمدة الإذاعة في مرحلة تحولات كبرى شهدتها البلاد والعالم العربي في أعقاب حرب تشرين 1973. كانت العواصم العربية الكبرى من القاهرة والرياض، إلى بغداد ودمشق وطرابلس الغرب، تتنافس على استيعاب الثورة الفلسطينية. وكان لكل منها رؤيته وأهدافه وعمّاله وماله. وكان الحزب في ذلك الخضم يحاول أن يجد لنفسه حليفا ثابتا مضاربا على الحق القومي. كانت دعوة الأمين هنري للقيادات العليا أن يعرفوا حجم الحزب وقوته، فلا يبيعون موقفه برخيص الثمن.
كان اغتيال القيادي الفلسطيني البارز، أحمد عبد الغفور، من المآسي التي لم يغفر لمن تسبب بها. كان عبد الغفور رفيقا سريا، وكان عقلا عسكريا بارعا، ولكنه كان أيضا مناهضا لسياسة ياسر عرفات. أصبحت حياة عبد الغفور في خطر. طلب الأمين هنري من رئيس الحزب ان يعين عبد الغفور عميدا للدفاع في الحزب، ما يحميه من خطر الاغتيال على يد منظمة التحرير. رفض الرئيس، واغتيل عبد الغفور، ولم يغفر هنري.
اندلعت الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975 فأصبح منزل الرفيق هنري مركزا للحزب. كان الأمين يوسف الأشقر قد قدم استقالته، وحدثت حركة المنفذين، ومن ثم حركة أبو واجب. مع بداية الحرب، كثر الخطف على الهوية. وكان رفقاؤنا هدفا سهلا، إذ إن القوميين متواجدون في كل المناطق. لا أدري عدد القوميين الذين تمت مبادلتهم عبر مفاوضات كانت تجري من هاتف الرفيق هنري آنذاك، ولكن ما اذكره إن هاتفه لم يكن يتوقف عن الرنين.
حادثة ثانية كنت شاهدا على فصولها هي اتصال هاتفي من قبل الرئيس الراحل كميل شمعون إلى بيت الأمين هنري. كان ذلك في أعقاب صد القوميين لهجوم من ميليشيا الوطنيين الأحرار على مركز الحزب في جل الديب، وتجريدهم من أسلحتهم. المهم، اتصل كميل شمعون بمنزل الأمين هنري، وصدف وجودي هناك. فطلب مني الأمين هنري اخذ السماعة الثانية في غرفة النوم. ما أذكره هو صوت كميل شمعون. كان يفح فحيحا. ما الذي أراده شمعون؟ استعادة السلاح المصادر! ضحك الأمين هنري، وصرف شمعون بالتي هي أحسن.
حياة شخص مثل هنري حاماتي لا تختصر بصفحات. لقد كانت حياة صاخبة عنيفة مأساوية مرحة وغنية بالعطاء. أما إذا أردتُ اختزال أبرز صفاته بكلمتين فأقول إنه كان رائيا ومعلما. وفي الاثنين الكثير من المتعة والكثير من العذاب. جميل ان تستشرف المستقبل، ولكنك تتعب من العداوات التي تنتج من رؤيتك لما لا يراه سواك. وفي التعليم الكثير من المتعة خاصة إذ تحتضن عقولا وإمكانيات تعطيها بكل شغف وتستقبل منك ما تعطيه بشغف أكبر.
غاب هنري حاماتي، ولكن كلماته باقية في عناوين صاخبة ومثيرة. إنها ستبقى منهلا لأجيال وأجيال.