هنري حاماتي الصوت الصارخ والسهم الجارح

شحاده الغاوي

Share

شحادة الغاوي

عند ما تلقيت خبر موت هنري حاماتي قفز إلى ذهني محمود غزالة. لقد تعودنا، ويا لسوء وبؤس ما تعودنا، أن نكرم الكبار والمميزين بعد موتهم وليس قبله. محمود غزالة لا زال حياً يرزق ينتظر مصيره على فراشه في مشغرة، فهلَا بادر أحد، مديرية أو منفذية أو رفقاء أو مسؤولون إلى الالتفات له وتكريمه وإسماعه قليلاَ من كلمات العرفان والتقدير قبل أن يموت، ولكي يموت مطمئناً لاستمرار الحياة في أبناء الحياة التي عمل لها بكل قوته وكل جوارحه وكل حياته؟؟

اليوم مات هنري حاماتي، وقد انهالت الكلمات وازدحمت، للإشارة إلى مسيرة جهاده الكبير والعنيف، والى نتاجه الفكري الغزير، والى مواقفه الكبرى وإلى… وإلى… مما هو فعلاً كبير ومميز سيترك أثراَ راسخاَ لأمد طويل.

إن معرفتي بالامين الراحل وتفاعلي معه، مواجهةً ومراسلةً، طيلة أكثر من أربعين سنة، لا يكفي الكلام عنها في صفحة أو صفحتين، حسبما طلب مني رئيس تحرير “الفينيق”. لذلك سوف أدون ما هو سريع في هذه العجالة تاركا الكلام والكتابة عن هنري بشكل أكمل وأوسع إلى مناسبة أخرى.

 بين يدي الآن رسالة مطولة وجهها إلي من فرنسا إلى أستراليا في 30-5-1989، أي منذ ثلاثين سنة. هذه الرسالة المؤلفة من 12 صفحة كان قد سرقها أحدهم من مكتبتي! وفيها آراء ومواقف ومعلومات على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية والخطورة. وكم فرحت عندما أتصل بي منذ سنة الرفيق طه غدار وأخبرني أنه والرفيق الدكتور علي حمية، اللذين تولاّ جمع وتصنيف ونشر ما كتبه هنري ولم ينشر بعد، قد وجدا نسخة عن الرسالة المسروقة كان هنري قد أحتفظ بها بين أوراقه. لقد فرَج الرفيق طه عني شعوري بالذنب لفقدي الرسالة. ولشدة فرحي بإيجاد نسخة عنها وإرسال هذه النسخة إلي مجدداَ، كدت أنشرها، لولا أن نبهني طه أنه لم يعد لي الحق بالنشر، وأن هذا الحق أصبح الآن لمن يتولى جمع وتصنيف ونشر ما تركه هنري، وأنه سيصدر كتاب يتضمن كل رسائله التي وُجِدت بين أوراقه.

يكاد يُجْمِعُ كلُّ من سمع هنري أو قرأ له، أن هذا الرجل ذكي جداً، ومؤمن بسعاده تماماً، وهو مملوك كلياً للقضية السورية القومية الاجتماعية، وقد عمل لها ولنصرتها، وصرف في هذا السبيل كل وقته وعمره وحياته، وقد برهن للجميع أنه صاحب “إدراك عال للعقيدة”، وقد ترك وراءه مجموعة كبيرة من الكتب والدراسات والمؤلفات حتى أصبح مرجعاً رئيساً من مراجع أعمال الحركة السورية القومية الاجتماعية. لذلك فقد يسأل سائل اليوم ويقول: إذا كان هنري حاماتي كل هذا الذي تقولون عنه، وكل هذه الطاقة والإمكانية الكبرى، فلماذا إذاً لم يصبح رئيساً للحزب ولا مرة؟

أنا، شخصياً، وبكل ثقة ودراية بما أقول، أجيب: إن الجواب على هذا التساؤل موجود بشكل مباشر وصريح وفصيح في رسالته الموجهة إليَ، التي نوهت عنها في ما سبق من هذه المقالة السريعة، إنه هو نفسه قد أجابني في رسالته على هذا السؤال تحت عنوان: “لماذا لا يرتاحون إليَ”.

قلت إن في رسالته إليَ معلومات خطيرة، وهذه المعلومات مقرونة بشهود وأسماء لا زال كثير من أصحابها اليوم على قيد الحياة ويمكنهم أن يؤكدوها، أو أن ينفوها

الامين الراحل هنري حاماتي

وفي هذه المناسبة، مناسبة الكلام عن المعلومات الخطيرة، يلحَ الكلام عن كتابه المفترض: “الاختراق الكبير”. هذا الكتاب، سمع به كثيرون، وانتظره كثيرون، وشكك بوجوده كثيرون لكثرة ما انتظروا والحَوا على صدوره، حتى ملَوا وعيل صبرهم. أنا، شخصياً، سألت هنري وقلت له: غداً أنت ستموت ويجوز أن يضيع كتابك، وتضيع معلوماته التي تقول إنها رهيبة، فلماذا لا تريحنا وتدفع هذا “الاختراق الكبير” إلى الطبع الآن قبل الغد؟ أجاب بهدوء، وقال لي: إن القوميين اليوم لن يتحملوا معرفة الحقائق التي يوفرها الكتاب لهم، أما بعد إصلاح الحزب، بالحد الأدنى، وتمكين ثقة الرفقاء بالنجاح والانتصار، فيمكن عندها أن يقرأوه وهم محصنين ومزودين بالثقة بالقضية وحتمية انتصارها رغم كل شيء.

إن هذا الجواب قد قادني للاستنتاج أن هنري حاماتي كان يحاول أن “يتسلل” ليصبح رئيساً للحزب، ليتمكن من إصلاح ما يمكن إصلاحه، وإعادة الثقة بأن المؤسسة الحزبية ستكون قادرة على السير بالاتجاه الصحيح، قبل نشر “الاختراق الكبير”. أما لماذا استعملتُ كلمة “يتسلل”، وليس “يحاول” بالطرق النظامية العادية، فلأنه، من جهة، سبق وأفصح في رسالته إليً عن “لماذا لا يرتاحون إليَ”، ومن جهة أخرى، لأن هنري لم يكن فقط صوتاً صارخاً بل كان أيضاً سهماً جارحاً. كان غضوباً عنيفاً، لا يجيد مجاملة أحد، ولا يستطيع أن يمسك الكثير من الكلمات الجارحة، ولكن الصحيحة والصادقة، التي كانت تخرج من فمه بحرقة وألم. إن استنتاجي يؤيده مضمون الصفحة الأخيرة من رسالته إليً، وهو:

{الصفحة الثانية عشرة من رسالة الأمين هنري حاماتي إلى الكاتب، بتاريخ 30 أيار 1989}

– سأعيد النظر في تاريخ الحزب، في مؤسسة رسمية ذات صلاحيات، لتصفية هذا التاريخ من العمالة والعملاء، ولو اقتضى هذا سقوط آخر أيقونة  وآخر وثني في هذا الحزب.

– سأتشدّد في قبول المقبلين على الدعوة.

– سأقسو في معاملة الأعضاء حتى لا يبقى معربش أو وصولي أو مرشح انتخابات، أو ملوّث بخدمة جهات من خارج الحزب.

– سأحاسب الكتّاب والمذيعين عل كل كلمة يكتبونها خارجة عن مفاهيم الحزب، فإذا ارعووا أُعطوا فرصة، وإلاّ فإن النهضة لا تحتمل المنافقين.

– سأركز على استقطاب القوميين النابغين لتثبيتهم في الحركة حتى يكونوا نواة ضمانة مستقبلها، وخصوصاً أبناء القوميين الاجتماعيين منهم، فالحزب لا يقوم إلاّ بالأعضاء إذا صدقوا في تعاقدهم.

– لن يُمنح رتبة الأمانة إلاّ قلة قليلة من رجال النهضة، فهؤلاء أساس البناء الأعلى لهذه الحركة العظيمة، التي أناطت بنفسها تحرير أمة وبناء حياة جديدة لها.

هذا بعض مما يجب فعله الآن، وما شرحته، وفصّلته تفصيلاً في رسائلي إلى الإدارة الحزبية والمجالس العُليا منذ عام 1984 حتى الآن؛ منذ أيام إنعام رعد رئيساً، كتبت إلى المجلس الأعلى، قبل مؤتمر ضهور الشوير، (رسالةً) أسأله فيها السماح للقوميين المؤهّلين بالمساهمة في دراسة تاريخ الحزب، ودستور الحزب، وسياسة الحزب.

أرأيت؟ إن مشكلتي الشخصية هي أنني لم أمت، ولم أسقط، ولم أغب…

وبعد،

أنا لا أسمح لنفسي إلاّ بشيء واحد فقط، هو أن أترقب ظهور ظاهرة جديدة في مستوى الأعضاء، تُنْبِئُنا أن هذا الجيل صالحٌ لحمل أعباء النهضة، مقتدر على مشاهدة المهام الكبرى التي تارب عليها، والاضطلاع بها.

ولست أحجب جهودي في هذا السبيل، فلكل دوره وإنتاجه.

                                                                       لك تحيتي

                                                                       هنري حاماتي

فرنسا في 30/5/1989

0
0