نهاية الفنون!

Share

شَغفُ الإنسان بلعبة “النهايات” ليس حديثًا، فهناك نهاية التاريخ.. نهاية الكتابة.. نهاية البشرية.. ونهاية الفنون. إضافة إلى نهاية المجتمعات التي ابتكرتها الليبرالية الجديدة فيما يسمى بالحروب الناعمة التي تحقق أهدافها من دون طلقة واحدة.

نهاية الفنون تبدو كارثية على الإنسان، فهي الجانب الروحي الجمالي الذي زين سلوكياته التي ظهرت في كثير من المراحل متوحشة وقاسية على الطبيعة وأبناء جنسه. هل ينتهي الشعر أم تنتهي الموسيقا؟ هل تنتهي الدراما والمسرح؟ هل ينقرض الرسم والسرد والنثر؟ الأسئلة مشروعة رغم قدمها منذ زمن هيغل وهايدغر، لكن ما يعيد إثارتها خلال العقد الماضي هو سلسلة التطورات المتسارعة على صعيد التكنولوجيا التي صارت تحدث فرقاً كبيراً في الفنون وتغير مسارها التقليدي، فهل هو انعطاف في المسيرة، أم استراحة تلتقط فيها الفنون الأنفاس كي تنطلق من جديد بشكل مختلف؟

على صعيد الموسيقا، انتشرت الموسيقا الألكترونية وصرنا نستمتع إلى مقامات وأنغام لم نعهدها في الموسيقا الكلاسيكية عند بيتهوفن وموزارت، كما تطورت الآلات الكهربائية بشكل كبير وأصبحت خارج التصنيف المعروف للأصوات، وقد اخترعت آلات قادرة على النيابة عن آلات متعددة. على صعيد الكتابة، تبدلت مسارات “خير جليس” مع محركات البحث العالمية وانتشار الكتب الألكترونية التي بشرت بنهاية عصر الورق التقليدي. عربياً، يعاني الشعر العمودي المكتوب وفق البحور الخليلية من مأزق كبير وقد أصبح نادراً في التداول والكتابة واستهواء أمزجة الجمهور. اليوم صغرت النصوص كثيراً بفعل التطور التكنولوجي، واختلفت الصور وأصبح الكلام عادياً يصفه النقاد بأنه لا يمت إلى الفن بشيء!

الصورة المتحركة تصدرت المشهد، وانتهى زمن المصورين المحترفين وآليات التحميض إلى غير رجعة. حتى بالنسبة لعالم الإعلام، فقد تم اختراع المحرر الآلي الذي يمكن أن يتطور لينوب الروبوت عن الإنسان الصحفي المختص لأن كل الناس أصبحوا صحفيين نظراً لتوفر الإمكانات التقنية وسهولة اعتلاء المنابر وإرسال الرسائل بأخطائها الإملائية والنحوية، وهو ما يبشر بنهاية اللغة أيضاً على المدى الطويل، لأن اللغة تنتج عن التفاعل الإنساني، فكيف الحال بعدما أصبح الإنسان يعيش في عزلة بسبب التطور السريع للتكنولوجيا؟ أما بالنسبة للغة العربية، فإن مستوى الجهل بها يرتفع ويزداد بشكل عمودي وأفقي، وهو ما يؤكد وجود التغير الذي نتحدث عنه.

هل انتهت ضرورة الفن حتى ينتهي وجوده؟ وهل يمكن أن تنتهي أسئلة الوجود والعواطف الإنسانية والانفعالات والحاجات النفسية حتى يتوقف الزخم الجمالي الممتع لدى البشر؟ في هذا التحقيق أخذنا عينة من شباب الجامعات في معظم الاختصاصات كي تدلي بدولها حول تطور الفنون العالمية والعربية. فلنتابع:

تقول شيرين حنا، طالبة سنة ثالثة إعلام: “لا أعتقد أن الفن ينتهي. من الممكن تبدله وتطوره لكنه لن يموت. نلاحظ اليوم تغير أمزجة الشباب تجاه الفنون وهذا يدل على التبدل السلبي أم الإيجابي. نلاحظ تعلق الشباب بفرق موسيقا “الراب” المأخوذة من الموسيقا الغربية، في حين تراجعت الأغنيات الكلاسيكية المعروفة مثل أم كلثوم وفريد الأطرش وفيروز. معظم الذين أعرفهم يستمعون إلى الفرق الشبابية الحديثة التي تقدم ألحاناً إلكتروني وكلمات عادية لا شاعرية فيها”.

الطالب عمر بقلة، طالب سنة ثانية أدب إنكليزي، يقول: “أثرت شبكة الانترنت على المحطات الفضائية بشكل كبير، فلجأت تلك المحطات إلى تأسيس أقنية على اليوتيوب وباتت تقدم مسلسلات قصيرة تناسب الشبكة، وبالتالي غير الفن من أساليبه كي يستمر في التواصل مع الجمهور.. ربما يؤثر التطور على فنون أخرى ويبدلها أو ينهيها.. لا أعرف بالضبط”.

شئنا أن نأخذ الموضوع باتجاه ثقافي أكثر، فسألنا عمر عن الكتب والقراءة عند فئة الشباب، فقال: “بصراحة أنا لا أقرأ أو لست من هواة المطالعة خارج اختصاصي. وكل ما أحتاجه من معلومات أجده في محركات البحث على شبكة الانترنت، لذلك لا داعي لوجود المكتبات في المنزل وشراء الكتب الغالية والانترنت متوفرة”.

حاولنا مقاربة الأمور أكثر مع فئات من الطلبة تدرس الاختصاصات العلمية، فكانت الآراء أكثر قسوة وحدّة. تقول يسرى قنواتي، طالبة صيدلة سنة رابعة: “تقريباً، انقرض الفن الملتزم بالقضايا الكبيرة، فلم نعد نرى أحداً يستمع للفرق السياسية الشهيرة التي تعلق بها الشباب في فترة ما، وهذا يعود إلى فشل هذه القضايا وتحولها إلى شعارات. اليوم نستطيع القول إن الفن الملتزم قد انقرض تقريباً”.

من الواضح أن آراء الشباب مرتبطة بالأثر الذي أحدثته الفنون طيلة المئة عام الماضية. فالبعض يقول إنه مل الرومنسيات ويسميها بالهراء. والبعض الآخر يقول إن الفن الملتزم راهن على الشعارات وليس على الجانب الإبداعي لذلك كان من الطبيعي أن ينتهي خاصة بعد فشل العناوين التي نادى بها. والبعض الآخر يرى أن مجتمعاتنا متخلفة وأن الشباب يقصدون الذهاب بذائقتهم إلى اتجاه مناقض تغريبي كردة فعل على الواقع السيىء الذي يعانون منه… البعض ذكرونا بفرقة “الطريق” ومارسيل خليفة، وفرقة “العاشقين” وغيرها من الفرق والمطربين الذين انتهت شعبيتهم أو توقفت رغم استمرار القضايا التي غنوا من أجلها وعلى رأسها فلسطين!

إذا وصفنا المرحلة الجمالية التي تمر بها المجتمعات العربية، يمكن القول إن الفنون غادرت مرحلة التنوير التي كانت فيها عبارة عن منارة للمجتمعات، إلى مرحلة المرآة، بسبب الإخفاق المتكرر في إحداث أثر في القضايا المثارة عند هذه المجتمعات. في هذه المرحلة يطغى الهراء على الأمزجة والفنون، وهو ما يوحي بانتهاء الفنون العربية أو تعطل دورها الفعلي في العقول والنفوس. وهذا قد يرتبط أيضاً بجميع المجتمعات الاستهلاكية الضعيفة التي تقلد المجتمعات القوية المنتجة والمخترعة في جميع المجالات. أسئلة تبقى محل نقاش وبحث.

0
0