نسمع كثيراً هذه الأيام، وعلى أثر صدور حكم الإعدام في قضية اغتيال بشير الجميل، نظريات تستعيد خطاب فريق معين من زمن الحرب، وتعتمده كخطاب مرجعي لكل الشعب اللبناني. فيصبح مثلاً من اغتال بشير الجميل قد اغتال حلم اللبنانيين، كل اللبنانيين، مع أن الغالبية العظمى منهم كانت ضد مشروع بشير وخياراته، وتعتبر وصوله إلى سدة الرئاسة في ظل الحراب الإسرائيلية هزيمة وطنية كبرى. ومع ذلك، يراهن هؤلاء على نعمة النسيان عند الشعب اللبناني بأجياله الحالية، ويرتكزون إلى حكم المجلس العدلي، ليؤكدوا للأجيال الحالية صوابية افتراضاتهم. لا بل يستطرد بعضهم للمطالبة بحل الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو حتى ملاحقة الجهات التي وقفت وراء العملية وخططت لها، وهم بذلك يعنون سورية دون أن يسمّوها. لعلهم بذلك يعرضون خدماتهم على من يريد النيل من سورية اليوم، تماماً كما تعرض راقصات “الستربتيز” نماذج مما عندهن للزبائن، على أمل…
لا بد أولاً من التأكيد على أن الاحتلال الإسرائيلي للبنان وقتها أوهم الكثيرين من السياسيين التقليديين أو أخافهم، مما أجبرهم على التعاطي مع الواقع الجديد المفروض، والبحث عن كيفية تمرير المرحلة بالتي هي أحسن. ومعروف عن “اللبناني الأصيل” المسيّس اللبق، أنه يعرف من أين تؤكل الكتف، ويسمي كل من يتزوج أمه عمَّه، ويعمل على قاعدة “بعد كديشي ما ينبت حشيش”، ويدخل مع أم العريس ويخرج مع أم العروس. ومن هذه الناحية، معهم حق المدافعون عن بشير اليوم أنه لو لم يقتل لكان شكّل حكومة وحدة وطنية كما فعل شقيقه الرئيس أمين بعده، ولشارك فيها ممثلو الطوائف الأساسية، فيما هم يكملون احترابهم الداخلي الذي قضى على نصف شباب لبنان. حتى أن كريم بقرادوني يؤكد في مقابلاته أن الشام كانت جاهزة للتعامل مع بشير، بشرط أن أي اتفاق مع الإسرائيليين يجب أن يحظى بمباركة الرئيس الأسد!
في المقابل، كان الكثيرون يحاولون اغتيال بشير، خاصة أحزاب الحركة الوطنية القريبة وقتها من المقاومة الفلسطينية، التي صنفت هي والمقاومة الفلسطينية أنها الخاسر الأكبر من الاجتياح. ومن هؤلاء الذين كانوا يحاولون قتل بشير الجميل أجهزة الأمن التابعة للحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والحزب القومي والناصريين وغيرهم. وكان أن وُفق حبيب قبل الآخرين، على حد تعبير الشهيد جورج حاوي.
بعد هذه المقدمة، لا بد من التركيز على النقاط القانونية التالية:
أولاً – تطبيق قانون العقوبات اللبناني بمواده 273-287: تحتم هذه المواد تطبيق أحكام الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة وغيرها بحق كافة قيادات الأحزاب التي تعاملت مع العدو (إسرائيل بحسب تحديد الدولة اللبنانية حتى إشعار آخر) وشجعته على احتلال لبنان وتعاونت معه في ذلك، وعلى رأسهم بشير الجميل وقيادة حزب الكتائب والقوات ورموز من مخابرات الجيش والأحزاب اليمينية الصغيرة الأخرى. لو كانت الدولة قائمة وقتها، لكان وجب اعتقال كل من تعامل مع إسرائيل، او سهل لها مشروعها الذي كان يهدف (كما نقل جوزف أبو خليل عن لسان الإسرائيليين) إلى احتلال بيروت وتنصيب رئيس جمهورية موالي لها يوقع معها معاهدة سلام تؤدي إلى توقيع الأردن لمعاهدة مماثلة فوراً، وتطويق سورية وجر الأسد إلى مفاوضات تؤدي إلى توقيع معاهدة سلام بشروط إسرائيلية. وبالتالي، فإن قانون العقوبات يطال حتى النواب الذين خضعوا للضغوط أو اقتنعوا بالمشروع الإسرائيلي وصوتوا لانتخاب بشير الجميل.
ولأن الدولة لم تكن موجودة، إكتفى مناضلون مثل حبيب الشرتوني ونبيل العلم بضرب رأس المشروع الإسرائيلي فقط، على أمل أن القضاء الرسمي سيقوم بواجبه يوماً ما مع الآخرين. لكن ضرب رأس المشروع كان ملحّاً وغير قابل للتأجيل، قبل أن تتأقلم الطبقة السياسية اللبنانية مع العصر الإسرائيلي وتمشي بصلح مع العدو. وقد أظهرت كافة الوثائق الإسرائيلية والغربية المسربة أن اغتيال بشير الجميل أفشل المشروع الإسرائيلي بالكامل.
ثانياً – أعتقل الشرتوني طيلة فترة حكم أمين الجميل ولم يحاكم. وبقي الملف في المجلس العدلي، وهذه كانت الحجة لإعادة تحريكه لاحقاً في مراحل عديدة. ولكن عدم المحاكمة سببه أن رئيس الجمهورية وقتها وحزبه وكل قيادات اليمين اللبناني يطالهم قانون العقوبات بالمواد المشار إليها أعلاه، والثوابت على تعاملهم مع العدو كانت ما زالت قائمة، وفتح هكذا محاكمة كانت ستتحول إلى محاكمتهم وإدانتهم.
ثالثاً – لكن المفصل الأساسي هو قانون العفو بعد الحرب، أي القانون رقم 84/91 الذي صدر بتاريخ 28 آذار 1991، الذي يمنح عفواً عاماً عن الجرائم التي ارتكبت قبل 28 آذار 1991. وتنص مادته الثانية على أنواع الجرائم المعفى عنها، وتنص مادته الثالثة على نوع الجرائم المستثناة من العفو، كما يلي: “المادة الثالثة: تستثنى من أحكام هذا القانون:
- الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي المنصوص عليها في المواد من 273 إلى 300 من قانون العقوبات.
- الجرائم المحالة على المجلس العدلي قبل تاريخ نفاذ هذا القانون.
- جرائم اغتيال أو محاولة اغتيال رجال وعلماء الدين والقادة السياسيين والدبلوماسيين العرب والأجانب… إلخ.
وقد جاءت المادة التاسعة منه لتفتح الباب أمام المزيد من إمكانات العفو لصالح أفراد محددين عن جرائم ارتكبت خلال ذلك الصراع الأهلي المديد، حيث تقول: “تعطى الحكومة سلطة استثنائية لمدة سنة ابتداءً من تاريخ العمل بهذا القانون لإصدار عفو خاص له مفاعيل العفو العام بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء عن كل شخص محكوم أو ملاحق بالجرائم المستثناة من هذا العفو، الواقعة على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي والمرتكبة قبل 28 آذار 1991”.
وبالفعل، ففي 28 آب 1991، صدر المرسوم 1637/91 الذي نصت مادته الأولى على “منح كل من الضباط السابقين ميشال عون وإدغار معلوف وعصام أبو جمرا عفواً خاصاً له مفاعيل العفو العام عن الجرائم المحال بها على المجلس العدلي بموجب المرسوم رقم 656 الصادر في 19/10/1990، شرط مغادرته البلاد خلال 48 ساعة من تاريخ صدور هذا المرسوم وبقائه في الخارج مدة 5 سنوات اعتباراً من تاريخ المغادرة”. وهكذا يكون الضباط السابقون قد طالهم العفو في حال كان أي منهم مداناً باستثناءات المادة الثالثة بما في ذلك البند 1. وكانت تستطيع الحكومة وقتها إصدار عفو خاص مشابه بملف الأمين حبيب الشرتوني لو كان هناك من طالب بذلك وعمل له.
لكن من المفترض أن هذا البند المشار إليه من قانون العفو (المادة الثالثة البند 1)، ما زال سارياً على كل من خالف المواد من 273 إلى 300 من قانون العقوبات. وهذا يشمل، كما أوردنا سابقاً، إلى جانب بشير الجميل، كافة من عاونه أو نافسه أو خلفه في قيادة الكتائب والقوات والأحزاب الأخرى وضباط جيش لبنان الجنوبي ممن تعاملوا مع العدو بشكل أو بآخر، بحيث تتراوح العقوبات بين السجن لعدة سنوات إلى الأشغال الشاقة أو الإعدام.
لم يحرك أحد هذا الملف من قبل على قاعدة المصالحة والغفران والنسيان والمسامحة وتبويس اللحى، وتفادياً لتشنج طائفي كون معظم المتعاملين كانوا من كبار القيادات المسيحية أو من الطوائف الأخرى الذين تحميهم طوائفهم.
غير أن القضاء اللبناني آثر أن ينكأ الجراح، وينظر إلى الملف المحال إلى المجلس العدلي قبل قانون العفو عن جرائم الحرب، المتعلق بعملية اغتيال بشير الجميل، دون أن ينظر إلى أسباب العملية السياسية والوطنية، ودون أن يلحظ أن ملف التعامل مع العدو خلال الحرب لم يشمله العفو العام الصادر في 1991. وبالتالي فإن الشخص المنفذة ضده العملية، والعديد من مؤيديه اليوم، من أفراد ومؤسسات وحتى بعض المحامين الذين يدافعون عنه مثل إدمون رزق، ما زالوا مدانين بحسب مواد قانون العقوبات. والشواهد كثيرة على تعاملهم، وأكثرهم اعترفوا بذلك من خلال مقابلات وكتب ومقالات، والتي كان من المفترض أن تعتبر بلاغاً للنيابة العامة (المشلولة والانتقائية) لتتحرك وتطلبهم غلى المحاكمة.
لذلك فنحن اليوم أمام مشهد يشكل قمة في التحيز والفئوية وانعدام العدالة، ولا مجال للخروج منه إلا بأحد هذه الطرق:
- إما إعادة محاكمة الأمينين حبيب الشرتوني ونبيل العلم، مع الأخذ بعين الاعتبار دوافعهما لتنفيذ العملية، وواقع أن من نفذت ضده والكثير من مؤيديه اليوم مدانون بقانون العقوبات، وإصدار أحكام على كل الذين استثناهم قانون العفو، سواء من منفذي عملية الإغتيال، أو من المتعاملين مع العدو، كل بحسب جريمته.
- وإما المضي بعد حكم الإعدام على الأمينين الشرتوني والعلم، بمتابعة الملفات التي لم يشملها العفو العام، وأهمها الخاضعة لقانون العقوبات بمواده 273 إلى 300، والتي يطالها الحق العام والخاص، واتخاذ الأحكام المناسبة من إعدام وسجن وحل أحزاب ومؤسسات، بناء على آلاف الشواهد الموجودة التي تثبت تعامل الكثيرين ومساعدتهم للعدو أو نيل المساعدة منه.
- إصدار قانون عفو خاص عن الأمينين الشرتوني والعلم.
عندها تكون العدالة شبه متوازنة، ونغلق ملفات الحرب بحسب قانون العفو، وينال المطالبون بإجراءات إضافية ضد الحزب السوري القومي الاجتماعي الجواب الشافي على تاريخهم المسجل، لا أن نبني مستقبلاً لأجيالنا القادمة معتمدين على النسيان والانتقائية والتشجيع على جرائم التعامل مع العدو، كونها ستطوى في غياهب النسيان، خاصة وأن البعض من هؤلاء لم يتوانَ مؤخراً عن التصريح بأنه لو عادت الأمور إلى الوراء فإنهم سيكررون خيارات قياداتهم وأحزابهم…