على ضفة المتوسط
حانة للضوء المعتّق يرتادها العميان..
حانوت يبيع الضمائر المنفصلة، أنا والنّحن، جملة وتفصيلا..
حرب تبيع الجبهات على عربة دمنا..
حب يتجوّل في حقول ألغام كسائح أجنبي..
حياةٌ تشبه طبق فقيرٍ لكنه طازج وشهي..
حيّة تبن تلدغنا كيفما اتجهنا هي الطائفية..
حزنٌ صار له قامة الشعر..
حنينٌ لبلادٍ له عادة ووجه ميّالة الشمس..
حقٌ يسترنا حين نموت عراة..
حريةٌ تعاني فشل نمو..
حلم يَمثل أمام محاكم التفتيش دائما..
حركة رقصية لأحزاب وأنظمة سياسية وأديان مصابة بالرمع المخيّ..
حكم وحاكم وحاكمية ينافسون الله على الأبد والأبدية..
حاضرٌ رقعةٌ في عباءة الماضي..
على ضفة المتوسط
حاء الحلول لا تحلّ ولا تربط..
يا وطن الماء…
كان أبي يعمل “مراسل دخّان” كما يسمونه بالعامية، أي موظف في مؤسسة “الريجي” كما كانت تسمى، ثم أصبح اسمها مؤسسة “التبغ والتنباك”، وفقا للتعريب الثوري “لثورة 8 آذار” التي أَعربت، بعد فترة حكمها الواحدي الشمولي المزمن، عن خالص إفلاسها، عند السنة المسيّسين لصالح “تركيا – أردوغان”، وعند الشيعة المسيّسين لصالح “ايران -ولاية الفقيه”، وعند كل أقلية لصالح الأم الحنون التي تبنّتها من بلاد العم سام، وتأهّل القومية الكردية السياسية إلى تصفيات الربع النهائي للدول المستقبلية في الدوري العالمي للصراع على هذه المنطقة… ولقد كان حزبها وما يزال صالحا كسترة واقية للنظام السياسي يلبسها على وجهين وجه اللغة العربية للأقليات ووجه التراث الإسلامي للأكثرية…
واليوم تبحث عن علبة دخان حمراء من إنتاج هذه المؤسسة كمن يبحث عن “فص ملح داب واختفى” وكل سيكارة تصرف قدّاحة كاملة كي تستمر في اشتعالها.
كان أبي اسمه “الياس الشهدا” كتداول شعبي عائلي معروف به، وفي الكنيسة مسجّل باسم معمودية غير معروف، وفي النفوس والدواوين الرسمية العربية مسجّل تحت اسم “إبراهيم جرجس”، ومكنّى بلقب “أبو حسين” كتداول رائج جدا، وكان له اسما حزبيا حركيا يدعى “شاهين” لانتمائه لحزب سري في زمن ثورة البعث ولعقود طويلة، مات أبي وترك خلفه عائلة من الأسماء، ولم نعرف بأيّ اسم تعرّف إليه الله.
ورغم كل هذا البذخ في الأسماء العربية والمعرّبة والمعرّفة حزبيا وطائفيا وعربيا ورسميا وشعبيا، كان أبي يدين برأيه وموقفه للقومية الاجتماعية السورية التي لا تعتبر رابطة اللغة ولا رابطة الدين أو الطائفة أساسا حقوقيا صالحا للمواطنة في الدولة.
أبي كان يحب العلم والتفوّق جدا، ولو قدّر له لعلّمنا جميعنا أطباء وصيادلة، وحين سألته لماذا هذا التطرف الشديد، أجابني وبالحرف “كي لا أعيز منيّة الدولة ولا أرضخ لأي ضغط من أجل وظيفة”، لقد كان دين الدولة البعث، ومطلوب من أي صاحب شهادة وطالب وظيفة أن يصبح بعثيا كشرط لقبوله، وإن توظّف لن يستلم أي إدارة أو مسؤولية، بينما الطب والصيدلة كانتا مهنا حرة…
ومنذ عقود مديدة، يقتطع حزب البعث حصة الأسد من لحم الدولة، على أساس أنه مؤسسة قائدة للدولة والمجتمع، حيث يبلغ عدد المتفرغين والموظفين فيها بمكاتبهم وفروعهم وشُعَبِهم وفرقهم وسياراتهم ومصروفهم ما يساوي ملاك أكبر وأكثر من وزارة، وكل دول الكرة الأرضية لا تنعم بهكذا مؤسسة قائدة وبعضها يقود العالم.
وحتى يومنا هذا، وبعد كل ما حدث من فشل وتدمير وتهجير، ما زال كل ما يخص إدارات الدولة ومؤسسات السلطة خاضع لقرار القيادة الحزبية البعثية “تحت رعاية وحماية وعناية أمنية فائقة عليا” رغم البحبوحة الديمقراطية الممنوحة كما يقال، مع فارق لغوي بسيط استبدال كلمة “اختيار” بكلمة “استئناس”.
وتَسأل “يا وطن الماء لماذا قصّرت في بلّ ريق العصافير”
والبعض يتّهم مثقفي الربيع العربي والمكنّى بالإسلامي والمزدهر تحت ظلالهم الوارفة…
وفي كل هذا لا يقرأ مثقف الممانعة طالع التطبيع….