تستحق هذه البلاد أن نموت فارغين! حتى لا تبقى المقابر أغنى الأماكن في العالم. ربما تكون دعوة طوباوية قليلاً، فالكتّاب والفنانون، لا يستطيعون إتمام كل شيء قبل الرحيل. لذلك سيأخذون معهم إلى التراب جميع المسوّدات التي لن يجد الأبناء وقتاً للاشتغال عليها. لن يكون غريباً أن نجد مكتبات المبدعين تباع على الأرصفة، لأنها قد تكون مجرد كراكيب بالنسبة للمشغولين بعمليات حصر الإرث وتوزيع العقارات إن وُجدت بين الأبناء والأحفاد.. موتوا فارغين أيها الكتّاب، ولا تحملوا دواة الحبر معكم إلى القبر. قولوا كل شيء قبل أن ترحلوا، فالحياة قصيرة والزمن لن ما تؤجلونه للسنوات القادمة.
لم يكن كتاب “مت فارغًا” الذي كتبه تود هنري، عبثيًّا، بل هو نتيجة تفكير وتأمل، أشعلت فكرة تأليفه إحدى الاجتماعات مع الطلبة عندما سألهم المحاضر عن المكان الأغنى في العالم، فكان جوابه “المقابر” على عكس ما توقعوا عندما أجابوا “أرض الخليج” استناداً لكثرة النفط، أو “مناجم الألماس” في أفريقيا نتيجة وفرة هذا المعدن الثمين.
ترى، هل يشعر المبدعون بخوف من لحظة المواجهة مع الموت، بسبب عدم تمكنهم من إتمام رسالتهم؟ ماذا لو أن أنطون سعاده لم يُقتل في الأربعينيات من عمره 1904- 1949″؟ هل نستطيع تخيل ما الذي كان سيفعله ويكتبه؟ وهل حال المبدعين الذي يصابون بالموت الفجائي يختلف عمّن كان يعرف أنه في طريقه إلى الموت أو الفداء مثل الشهداء؟ هل نتذكر سعد الله ونوس وهو يكتب معظم مؤلفاته في سنواته الأخيرة متسابقًا مع السرطان؟ وماذا سنقول ونحن نقرأ آخر ما كتبه فايز خضور وهو يشعر بدنو الموت:
كاد يُنهي لعبةَ العمرِ المواتْ:
“أنت ميْتٌ”..!!
أيُّ تسبيحة نايٍ ستردّ الدفءَ في
معنى الحياةْ..!!
“أنت ميْت”..!!”
يقول الفنان نبيل السمّان “1957”: “لا يؤرقني الموت، بقدر ما تؤرقني الحياة! فكرة الرحيل المفاجىء وفي الذهن والروح الكثير مما لم ينجزه الفنان، تشكل رعبًا للمبدعين جميعاً، لكننا نستطيع التحكم بالحياة ولا نقدر على ذلك مع الموت، لهذا لننشغل بالحياة وأسبابها قدر الإمكان، لنهب الوقت إلى المشاريع الكبيرة والمؤثرة التي تدوم ولا تتعرض للموت مثل صاحبها. وعندما يأتي الموت فهو لن يستأذن أحدًا. وإن أفضل أنواع الموت عندما يكون من أجل الحياة!”
هناك مبدعون ذهبوا إلى الموت راضين بعدما يئسوا من الحياة. الأميركية سيلفيا بلاث وضعت رأسها في الفرن كي تستنشق الكربون. الفنان السوري لؤي كيالي، اختار لهيب النار. الشاعر خليل حاوي أطلق النار على رأسه عندما دخلت القوات الإسرائيلية بيروت. الياباني يوكيو ميشيما، فضّل الطريقة اليابانية القديمة بنزع الأحشاء! كثيرون ذهبوا للموت طواعية ولم يفكروا بالفراغ أو الامتلاء، لكن المؤكد أنهم قالوا كل شيء، ولو بقي لديهم شيء يستحق الانتظار لأجّلوا الموت بعض الوقت!
صدور أعمال الراحلين بعد موتهم، يؤكد أنهم لم يعملوا بقاعدة “موتوا فارغين”، فهذه القاعدة ليست سهلة أو يمكن التحكم بها، إلا في حالة الانتحار، لكن من المؤكد أن المنتحرين غادروا الحياة لأن هناك أشياء لم يستطيعوا قولها!
يرحل المبدعون كأنهم لم يزوروا الحياة، فهم يعيشون مهملين مهمشين فقراء في الغالب، كما يطالهم الإهمال بعد الموت بغض النظر عن السوية الإبداعية في مؤلفاتهم. فعندما يعيش الجسد فارغًا غير متمتع بالحياة، لن يلحق الذهن في تسديد الكرات باتجاه مرمى الوقت. وسيكون طبيعيًا أن تتراكم المسوّدات التي ترافقهم إلى المقبرة.. تلك المنطقة التي يعتقدها “تود هنري” أغنى المناطق في العالم!