مهاجرون…

Share

شام قطريب

يخضع موضوع الهجرة لتجاذباتٍ كثيرة على الصعيد الدولي، وتحاول البلدان التي تستقبل أعداداً كبيرة من اللاجئين بغض النظر عن جنسياتهم، أن تمارس الضغوط من أجل تحصيل المكاسب السياسية والمادية من الدول المصدرة للمهاجرين، ومن المنظمات الدولية التي ترعى شؤون اللاجئين ومن الدول التي تخشى أن تصل موجات الهجرة إليها، حيث تهرع لتقديم المساعدات كخطوة استباقية. مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، وفي آخر تقرير لها، أفادت أن هناك أكثر من 82.4 مليون شخص حول العالم فرّوا من ديارهم، منهم 26.4 مليون لاجئ، نحو نصفهم دون سن الثمانية عشر عامًا. أما على الصعيد المحلي، فقد احتلت سوريا المركز الأول حيث بلغ احصائيات الأمم المتحدة ما يقارب 6.7 مليون لاجئ منذ عام 2014 يعيش نحو 80 بالمئة منهم في الدول المجاورة. وكان آخر خبر أثار ضجة هو هجرة الصناعيين السوريين بشكل متزايد نحو مصر، الأمر الذي نفاه وزير الخارجية فيصل المقداد عندما اعتبر أن الأرقام مبالغ فيها، كما قال حينها إن وجودهم في مصر لا يعني هجرتهم بل إنهم سيعودون وسيعود خيرهم على بلادهم نظرًا للتسهيلات التي تقدمها سوريا عبر قانون الاستثمار الجديد.

من الوجهة الاجتماعية، فإن موضوع الهجرة والتشجيع عليها، يطرح قضية الحرب ضد المجتمع واستنزافه من الخبرات وممارسة الضغوط كي لا يشعر الناس بالأمان والاستقرار، الأمر الذي يدفعهم إلى المغادرة بحثًا عن مكان آخر.

اللافت للنظر، أن أساليب الهجرة تعددت خلال سنوات الحرب، فمنذ عام 2014 أخذت الهجرة بالارتفاع، وقد سلكت الطرق البرية في بداية الأمر تسهيلاً من الدول الأوروبية التي كانت تريد استقطابهم للتغلب على العديد من المشاكل لديها، حيث وصل المهاجرون مشيًا على الأقدام إلى ألمانيا وغيرها من الدول، لكن في مرحلة لاحقة، لم يكن هناك من مجال سوى الهجرة عبر البحر من تركيا باتجاه اليونان، وقد تسبب هذا الطريق بغرق الكثير من السوريين في البحر، كما قُبض على الكثير منهم وزجّوا بالسجون. أما الطريق الثالث فكان عبر الخطوط الجوية لكنه يعتبر الأعلى تكلفة حيث باع الكثير من السوريين منازلهم وممتلكاتهم من أجل توفير تكاليف السفر لأبنائهم. هكذا حرصت كل أسرة على إرسال أحد أفرادها إلى الخارج كي يكون عونًا لها. وعمد المقتدرون إلى البحث عن منحات تعليمية مجانية أو مأجورة تمكّن الطلاب من الهجرة بلا طلب اللجوء من أجل التمكن من العودة والزيارة لأرض الوطن، وعلى اعتبار أن هذا الطريق مضمون من الأخطار التي قد يتعرض المرء برًا أو بحرًا.

لقد زاد من تفاقم الهجرة، سوء الأحوال الاقتصادية وعدم تمكن الشباب من تحقيق طموحاتهم على مختلف الصعد، لكن مع ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة الليرة السورية أمام العملات الأخرى، فإن تكاليف السفر أصبحت تساوي مبالغ خيالية لا يمكن تأمينها من قبل المواطن مهما فعل وباع من أملاكه، وكانت آخر الطرق التي اكتشفها الناس هي الهجرة عبر أفريقيا فهي الأقل تكلفة والأطول زمنًا، لكنها غير مضمونة النتائج للأسف!

يمكننا اليوم أن نتحدث عن هجرة المهنيين وأصحاب رؤوس الأموال المتوسطة والصغيرة باتجاه مصر، فالكثيرون يفضلون تلك الوجهة نظرًا لانخفاض تكاليف العيش هناك، ولنجاح المهن السورية في جني الأرباح وتحقيق حضور جيد في السوق المصرية، إضافة إلى أن السفر إلى مصر لم يأخذ شكل الهجرة النهائية بل أخذ صفة إقامة المشاريع والحفاظ على تواجدٍ ما في سوريا بالنسبة للكثيرين.

شبكات تهريب البشر

مع الوقت، نشأت شبكات كاملة تعمل في تسهيل هجرة الشباب، ومثلما قلنا كانت الأمور في بداية 2014 مجانية وتتعم وفق تسهيلات كبيرة من قبل تركيا والاتحاد الأوروبي، لكن الواقع بدأ يختلف رويداً عندما اكتشفت تلك الدول من المهاجرين وبات لديها الكثير من الأعداد التي تريد تشغيلهم في الزراعة والصناعة وفي مشافي العجائز التي يتعفف الأوروبيون عن العمل بها. شبكات تهريب البشر تعمل بأكثر من طريقة، منها من يملك عملاء في داخل سوريا، وهو من يقوم بقبض المال عند إنجاز كل خطوة على طريق الهجرة بحيث يتم دفع المبلغ كاملاً عند الوصول إلى المحطة الأخيرة، ويصل مبلغ ترحيل الشخص وإيصاله إلى أوروبا إلى أكثر من عشرة آلاف دولار، وهو مبلغ كبير جداً على مداخيل السوريين المتواضعة خاصة بعد أن فقدوا الكثير من ممتلكاتهم وصرفوا مدخراتهم بعد سنين الحرب الطويلة.

تعرض الكثير من الشباب خلال الطريق إلى سرقة أموالهم وبعضهم تعرض للضرب الشديد من الشرطة التركية، كما لاقى البعض منهم حتفه بسبب التعذيب، وصار من الطبيعي أن نسمع عن ضحايا غرقوا في البحر أو ماتوا في الغابات، أو قضوا فترات طويلة في السجون التركية واليونانية. هذا غيض من فيض ما يجري على طريق الهجرة من إتجار وتلاعب وغش بحق الشباب الذين يحاولون البحث عن فرصة للعيش والدراسة والعمل.

بحثًا عن الحلم!

لا يفاجأ المتابع، أثناء إجراء استطلاعات الرأي، عندما يكتشف أن هاجس السفر موجود عند أغلب الشباب السوري، حيث يكون الهروب من الفقر وتحصيل الاختصاصات العلمية الأكاديمية العالية، والبحث عن الاطمئنان والشعور بالأمان المستقبلي، أهم الأسباب التي تدفع الناس للهجرة. كما يأخذ هدف إنقاذ الأسرة الفقيرة ورفدها بالمصروف الشهري اللازم للمعيشة أحد الأسباب، إلى جانب الأمل بإجراء عمليات لمّ الشمل التي تجمع جميع الأفراد مع بعضهم في مكان واحد لاحقاً إذا سمحت الظروف. من أجل ذلك اضطرت الكثير من الأسر إلى إرسال أبنائها القاصرين الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشر بعد من أملاً بإجراء لمّ الشمل للأب والأم والأخوة في المستقبل، لكن مسيرة اللجوء لا تبدو سهلة بالشكل الذي يتصوره الشاب، فهو إن نجا من مخاطر الطريق، فإن السنوات التي سيقضيها في بلد اللجوء تتطلب منه بذل الكثير من الجهود بدءًا من تعلم اللغة والإجراءات الرسمية الروتينية اتي تأخذ وقتًا طويلاً، وصولاً إلى إيجاد فرصة عمل مناسبة لاختصاصه هناك، وفي بعض الأحيان فإن البلد المضيف لا يعترف بالشهادات العلمية التي نالها المهاجر، ويطلب منه إعادة الدراسة أو الخضوع عدة سنوات لاختبارات وتدريب، كما يحدث مع الأطباء السوريين الذين يعملون لفترة طويلة بصفة مساعدين في المشافي وعيادات الأطباء!

آراء الشباب

كل من التقيناهم من الشباب في المرحلة الثانوية، يقومون اليوم بالخضوع لدورات في اللغة الألمانية والإنكليزية كي يختصروا الزمن بعد وصولهم إلى أوروبا، كما عمد البعض إلى تغيير اختصاصه، فتعلم بعضهم الحلاقة التي يقولون إنها تدر مبلغًا جيدًا من المال هناك، وفضل آخرون الدخول في اختصاصات التقنيات التكنولوجية والكمبيوتر من جهة البرمجة والصيانة، باعتبار أن هذا الاختصاص يعتبر عالمياً نظرًا لأن جميع الدول بحاجة إليه.

يقول “سامر”، طالب بكالوريا، إنه منذ اليوم يعد نفسه للسفر بعد نيل الشهادة الثانوية، إذا لا فائدة ترجى من الانتظار حتى إنهاء الدراسة الجامعية حيث من الممكن إنجازها هناك. “سيلفا” ترفض السفر إلا عبر المنح الدراسية، لأنها الأضمن والأسلم من جميع النواحي رغم تكلفتها العالية، لكنها كما تأمل ستعوضها في المستقبل عندما تصبح أستاذةً جامعية مشهورة تسعى إلى إجراء العقود معها الكثير من الجامعات.

أبناء سلمى، بقوا وحيدين عن خالتهم في الوطن، بعدما غرق “البلم” أثناء محاولته الوصول إلى اليونان، فماتت الأم وذهبت جميع أحلام الحياة المثلى والرخاء أدراج الرياح. “أحمد” حوصر في تركيا عدة أشهر، ولم يبق لديه أية مدخرات تمكنه من الاستمرار هناك أو تساعده في الوصول إلى أوروبا، ففضل في النهاية السفر بدعوة زيارة إلى دبي من أجل بدء رحلة البحث عن عمل لا يعرف أحد إن كانت ستنجح أم لا!

تواصلنا مع بعض اللاجئين الذين تمكنوا من الوصول إلى ألمانيا وغيرها منذ عدة سنوات، وتفاجأنا في حجم الشرخ الذي أصاب الانتماء لديهم بسبب ما تعرضوا له من شظف في العيش وصعوبات في السفر. يقول خالد: “بصراحة لا أشعر بأي رابط مع الوطن، لأنني تعذبت كثيرًا فيه، وأعتقد أن الوطن هو المكان الذي يؤمن لك العيش الكريم ويعطيك الفرصة من أجل تحقيق طموحاتك!”

“جمال”، أحد الآباء الذين دفع بابنيه إلى السفر منذ خمس سنوات، وبقي وحيداً مع الأم ينتظران أن تنجح فرصة الزيارة أو لمّ الشمل، لكنها للأسف تأخرت ولم تأتهم الفرصة. يقول جمال: “أشعر أنني ربيت أبنائي لعالم آخر وبلد أخرى، فربما أموت هنا وحيداً وهم بعيدون عني. صحيح أنهم قد يحققون حياة أفضل هناك، لكن ما الفائدة من كل ذلك وأنا خسرتهم إلى الأبد؟”

لا أحد يعلم إن كان “الإثم الكنعاني” سيترك أثره في نفوس أولئك الشباب وشخصياتهم فيدفعهم إلى العودة مجدداً إلى أرض الوطن. فتجارب المهاجرين من مختلف الجنسيات تقول إن الجيل الأول الذي ينشأ هناك يحمل من الذكريات وآمال العودة الجزء البسيط مما يحمله الآباء، أما الأحفاد، فعلى دورهم تحدث القطيعة النهائية مع الجذور.

بين المهاجرين، نعثر على حالات كثيرة من الطلاق، أو تعض الأهل للسجن والعقوبة بسبب اختلاف القوانين وأساليب تربية الأبناء عن مجتمعنا، حيث تم سلخ الأبناء عن الأب والأم في كثير من الحالات وإلحاقهم بمدارس داخلية أو بعائلات أوروبية. في هذا ظهرت القارة العجوز وهي تحاول أن تجدد شبابها على حساب الجراح السورية، ولا يستبعد أحد أن تكون تلك الدول وراء تكثيف الضغوط وإجراءات الدعايات اللازمة من أجل الحث على الهجرة في الفترات الأولى التي كانت تلك الدول محتاجة فيها إلى أعداد كبيرة من اليد العاملة في شتى الاختصاصات. فاليوم يعتقد الشباب السوري أنه ذاهب إلى الفردوس المفقود، في حين تأمل الدول المستقبلة للمهاجرين في تجديد الدورة الدموية الاجتماعية لديها، وسد الثغرات في قطاعات الأعمال التي تعاني من نقص في القوى البشرية.

0
0