علي قطريب
ليس الهدف من هذا السؤال، البحث عن الانتماء الوطني والقومي من جديد، فهذا أمر محسوم من وجهة علم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ. لكن القصد هو اقتفاء آثار الحرب على هذا الانتماء عند الشباب تحديدًا. فالحرب التي تهدف لإخضاع شعب ما، تبدأ بالأهداف الميدانية والعسكرية، ومن ثمّ تنتقل إلى المفاهيم العقلية التي تربط المجتمع بالأرض. لقد تعرض المجتمع الشامي إلى الاستنزاف بالهجرة نتيجة الخوف والظروف الاقتصادية والقلق من المستقبل، كما أثّر عامل الشعور بالخطر على حال المجتمع عندما راح الفرد يبحث عن الأمان، حيث تحكم هذا الأمر في إحداث تغييرات في موضوع الانتماء، فتقدّم الانتم
يقول كُمي، طالب في كلية السياحة: “الانتماء شبه ملغى عندما يتعلق الأمر بلقمة العيش. أنا إنسان بغض النظر عن انتمائي العرقي أو الطائفي أو الوطني، وأي مكان يوفر لي حقوقي كإنسان، يكون اسمه وطنًا بالنسبة إلي.”
ربْطُ الانتماء بلقمة العيش وبعامل الأمان وبقاء الإنسان حيًا، يمكن اعتباره قاسماً مشتركاً في إجابات جميع من التقيناهم، بل إن النجاة الفردية أصبحت هدفًا جوهريًا. وهذا يشير بالطبع إلى قسوة الظروف التي مرت خلال العقد الماضي مع انسداد الأفق وغياب أي أمل يراهن عليه. يقول خليل، طالب في كلية الحقوق: “لم أعد مهتمًا بمفهوم الانتماء. خلال الحرب فقد الشعب كل أنواع الهوية. أنا لا أعتبر نفسي ذا هوية وطنية أو دينية أو طائفية، كل ما يمكنني قوله هو أنني أرغب بالبقاء على قيد الحياة بغض النظر عن هويتي أو انتمائي.”
يعود كُمي، ليضيف تأثير الخراب الذي خلفته الحرب على الانتماء: “نحن شعب مدمّر ومفرّق بكافة الأشكال، انعدم عنا الانتماء الوطني وأصبح حلم المواطن السوري مغادرة سوريا بحثًا عن مكان يأويه ويحتضنه ويؤمن له لقمة عيشه وأبسط حقوقه كالطعام والمأوى.”
آلاء، طالبة في كلية الترجمة، تقول: “نحن ضحية ما جرى ومازال يجري. نحن الذين لم نعد نعلم لمن يكون انتماؤنا. في ظل ما يجري نحن لا شيء يذكر على الإطلاق، مهمّشون رغم وجودنا على قيد الحياة. الحياة التي احتُسبت علينا بالاسم فقط في مكان نعيش فيه وكأنه غابة الكل يقاتل وينهش الآخر ليعيش. في مكان يسمى وطنًا وأي وطن ذاك الذي يعيش فيه أبناؤه فيه معاناة في غاية الألم وهم في مقتبل أعمارهم بينما أرواحهم في عمر الشيخوخة. نحن لا أحد منا يعرف من هو!”
سبر وخط بياني
نظرًا لتقارب الإجابات، نوردها كما تلقيناها من دون تحرير يذكر إلا للضرورة:
- باسل، طالب في كلية الإعلام: نحن ضحايا لا أكثر. بعد الحرب شعرت بأن لا هوية لدي ولا انتماء، ربما يمكن أن أقول عن نفسي بأنني سوري بالدرجة الثانية ولكنني إنسان بالدرجة الأولى.
كريم، طالب في السياحة: لا يمكن أن أقول بأنني أنتمي لأي هوية بعدما جرى خلال الحرب. شهدت كمواطن سوري انهيار جميع الانتماءات وما بقي حقاً هو الحاجة الفردية لا أكثر، لا يمكن الحديث عن الهوية في ظل الظروف التي نعيشها حالياً فكل ما يهمني هو البقاء حياً.
- سبأ، خريج كلية هندسة معمارية: لا يمكنني التفكير بأي هوية أشعر بأنني بالفعل أنتمي إليها. عند المرور بالموت والجوع لا يمكن التفكير سوى بالبقاء حياً، حين يحلّ الجوع والخوف سترى أن الهوية والانتماء لم تعد ذات حضور. يمكنني أن أقول إن الحرب والهجرة أثبتت أن السوري في خندق واحد مع السوري الآخر بغض النظر عن خلفية كل منهما، في النهاية الجميع أبناء الإنسانية لا أكثر ولا أقل.
- يزن، خريج كلية هندسة مدنية: لا يمكن الحديث عن الهوية أو أي انتماء آخر في ظل هذه الظروف، يمكنني أن أقول إنني شهدت الزوال الفعلي لها في 2015، أي عندما بدأت الهجرة تحديداً، لم نفكر حينها بأي هوية قبل مغادرة هذا المكان، لم نكن جماعة من خلفية واحدة ولكن ما جمعنا هو الرغبة بالحياة لا أكثر.
- ديمة، طالبة في كلية الحقوق: “بعد 10 سنين من الحرب كنا ناطرين نتائج مرضية أكتر من الواقع يلي عم نعيشو حاليا لانو الشعب بطل فارق معو الهوية الوطنية بظل الظروف الاقتصادية الرديئة، صار همّو الوحيد تأمين لقمة عيشو.”
- غيث، طالب في كلية الإعلام: لا أشعر بأنني منتمٍ لأي شيء فعلاً، يمكنني أن أقول إنني سوري إلى حد ما، لكنني في ظل هذا الانتماء لا أتمتع بأي من حقوقي أو مقومات تجعلني أشعر بالراحة مع انتمائي هذا.
إشارة
قصدنا في سؤالنا عن الانتماء بعد عشر سنين من الحرب، التوجه نحو فئة غير المنتمين حزبياً، فهم الشريحة التي ستجيب بمعزل عن العامل الأيديولوجي الذي يُظهر الإجابات كما يتمنى المرء أن تكون بينما الواقع يقول غير ذلك. بالطبع، فإن هذا لا يلغي مشروعية العمل السياسي والفكري ومشروعية الحلم بالارتقاء في موضوع الانتماء إلى حالته السامية مع أكبر جرعة من الوجدان القومي الحيّ. ولكن ربما يجدر بنا أن نقرع أجراس الخطر مما يعصف بشباب الأمة من مخاطر بعد هذه السنين. فإذا كان أنطون سعاده قد حسم الانتماء بالقول: “نحن سوريون ونحن أمة تامة” منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، في ظروف لا تقل قساوة عن اليوم، فإن بقاء هذا السؤال غير محسوم وفي ظروف مشابهة تتكرر عبر الحروب والأحداث الكبيرة، يدفعنا للتساؤل عما كانت تفعله الأحزاب والحركات السياسية طيلة مئة عام من العمل حتى تكون الإجابات بهذا النحو؟
يقول الفيلسوف الكندي “هربرت مارشال ماكلوان*” في كتابه، قوانين الإعلام، العلم الجديد: “لقد أثبتت التغيرات التي تحصل في الهوية بشكل مفاجئ وفي فترات قصيرة جدًا أنها أكثر تدميرًا وفتكًا بالقيم الإنسانية من الحروب التي تُخاض بالأسلحة التقليدية.”
لقد طلب المشاركون في هذا التحقيق عدم نشر صورهم أو أسمائهم كاملة، وذلك خوفاً من التبعات التي يمكن أن تلقى عليهم. وربما يكون هذا مؤشر عما يعصف بالانتماء أيضاً من معضلات. القضية تحتاج إلى مكاشفات جريئة ومصارحات لا تتردد في قول كل شيء بصوت مسموع مع وضع الأسماء صريحة لا يُقبل فيها الشكّ أو التردد.
خلاصة التجربة السورية تقرّ بأن الفرد سيبقى عالقًا في خانة التفكير البدائي طالما سيكون مضطراً لخوض معركة في كل مرّة يريد فيها إشباع حاجاته الجسدية، يقول الشباب: لا يمكن سؤال الجوعى والمقهورين عن انتمائهم، بنفس الطريقة التي لا يمكن فيها سؤال المتمترسين على الخطوط الأمامية عن رأيهم في الاتجاهات الفنية الحديثة!
تُرى، هل كان هذا هو الهدف الأساسي من الحرب المعلنة علينا كأمة سورية؟
* Marshall McLuhan: Laws of Media: The New Science, p.97