ملف الندوة: بياض صفحات شحادة الغاوي وسواد دخانهم

Share

على الرغم ممّا أورده شحادة الغاوي في مقدمة مبحثه الأخير “الأسباب والعوامل الحزبية الداخلية في تاريخ استشهاد سعاده… وما بعده” حول الغرض من هذا الكتاب، حيث قال: “إن هذا الكتاب وما يحتويه لن يدين أحداً ولن يحكم على أحد، فهذا ليس غرضه أبداً… فالقرائن والمقاربات (الواردة في الكتاب) لا تستهدف أشخاصاً بعينهم، كما أنها ليست مبنية على فراغ بل مستندة إلى حقائق ووقائع وأمور حدثت فعلاً“، على الرغم من هذا الإعلان الصريح والصادق، لم يسلم الغاوي من تنّين متعدد الرؤوس الفارغة آثر مواجهة الفكر بالتنظير والتزوير في حملة استهدفت شحادة الغاوي وكتابه، فنفث التنين دخانه الأسود من جهات متعددة عاجزاً عن إخفاء نصاعة الأدلة التي قدّمها الغاوي لطلاب الحقيقة، في زمن أصبحت الحقيقة مادةً نادرة.

من بين تلك الرؤوس الفارغة لهذا التنين رأسان أكثر فراغاً من باقي الرؤوس، ينتميان إلى نوعين من الشذوذ الفكري الذي حذّرنا منهما سعاده غير مرّة، وأثبتت السنون والتجارب التي شهدها القوميون صحة ذلك التحذير بما لا يقبل الشك.

النوع الأول من الشذوذ تطرقت إليه في مقالة سابقة تحت عنوان “أبعدوا التقديس والـتأليه عن سعاده“. سعاده لم يكن طالب “قداسة” أو “تأليه”، فحري بمن آمنوا بمبادئ حركته أن يحذوا الحذو نفسه ويطبقوه فيما بينهم. الأشخاص في حزب سعاده ليسوا بأسمائهم ولا بألقابهم ولا بمسؤولياتهم بل بأفعالهم ونضالهم في خدمة تحقيق غاية الحزب، وفي مدى وفائهم للقضية وللزعيم يوم أرادهم الزعيم أن يقفوا إلى جانب النهضة وقفة العز المشرّفة، لا أن ينحنوا أمام التحديات ضعفاء جبناء. القوميون الاجتماعيون بهتافهم “وليحي سعاده” هم لا يؤلّهون الزعيم ولا يقدّسونه بل يهتفون بحياة فكره وفلسفته وتعاليمه وما قدّمه للأمة وللعالم، حتّى الدماء التي جرت في عروقه. لا، لا وريث لسعاده ولا خليفة له، بل حملة مشاعل النهضة في سبيل نصرة مبادئها.

تقوم فلسفة سعاده على أس تحكيم العقل والمنطق في معالجة كافة المسائل والقضايا، وبالأخص تلك ذات العلاقة بالفكر القومي الاجتماعي. وتحكيم العقل والمنطق لا بد وأن يتمخّض عنه منحى تطغى عليه الموضوعية والتجرّد في مقاربة الأمور. هذه الموضوعية وهذا التجرّد يحتّمان على القوميين الاجتماعيين التّخلّي عن موروثات ما قبل النهضة، وخاصة التعمشق بالأشخاص والاستزلام لهم واعتبارهم منزّهين عن الخطأ، وكأنهم محاطون بهالة من القداسة والطوباوية.

أكثر السوريين القوميين الاجتماعيين يعلمون، أو أنهم سمعوا، بظاهرة “جورج عبد المسيح” داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي، التي أدّت إلى قيام ما عُرف بـ”جماعة عبد المسيح”. هذه الشخصية عند هذه الجماعة هي معصومة من الخطأ، هي دائماً على حق. وأصبحت، حسب اللفظ المتداول في أيامنا هذه، “خطّاً أحمر” لا يمكن لأحدٍ تجاوزه، وإلاّ يكون عرضةً للدخان الأسود من رأس التنين. لم تكن الأمينة الأولى جولييت المير سعاده أولى ضحاياه ولن يكون شحادة الغاوي آخرها.

وبالنسبة لمادة كتاب الغاوي، لم يهتز رأس التنين لقائمة الملابسات، والتجاوزات، وما ارتُكِبِ من هفوات من قِبَل مسؤولين داخل الحزب، والتناقضات في مواقفهم، وادّعاءاتهم المضللة، وكلّها أوردها وفنّدها الرفيق شحادة الغاوي في كتابه، محدّداً مراجعها، مدقّقاً بصحتها من مصادر متعددة. جُلَّ ما قرأوه، أو ما سمعوه بالتواتر كما تبين لاحقاً (شأنهم شأن الرأس الفارغ الثاني للتنين الذي سنتحدث عنه لاحقاً)، أن الغاوي تهجّم على “الذات الإلهية” العبد المسيحية وكشف بعض عوراتها، خاصة خلال الأشهر التي أحاطت بالثامن من تموز عام 1949. يا لهذا الكفر والإلحاد!

حتّاما سيبقى بعض القوميين الاجتماعيين متعمشقين بالأكفان وأخشاب التوابيت؟ لا تزال الهياكل العظمية تتماثل أمامهم في أحلامهم ويقظتهم. يستلهمون منها ما يسمونه فقهاً عقائديا. أهكذا فهم هؤلاء أن العقل هو الشرع الأعلى؟ هلاّ صعب عليهم القبول بمبدأ الحوار وممارسة الحرية-الصراع الفكري قبل إصدار الأحكام والاتهامات الباطلة؟ (تجدون في هذا العدد من الفينيق عيّنة من “الإبداع الفكري” عند هؤلاء ترون من خلال قراءتكم لها المستوى في التعاطي عند هذه المجموعة)، ناهيك بأن الغاوي لم يتهجّم على الأشخاص، أصحاب المواقف المترددة والمتذبذبة ممّن وثق بهم سعاده وعلّق عليهم آماله بالحفاظ على العهد والقسم، بل اكتفى الباحث بالإشارة، من خلال الأدلة والبراهين، إلى مواقفهم وتصرفاتهم حصراً. فلماذا إذن هذا التهجّم غير المسبوق على شخص الرفيق شحادة الغاوي؟

حبّذا لو يلقي القوميون الاجتماعيون بهذه التبعية العمياء للأشخاص، الأموات منهم والأحياء، جانباً، ويخرجون من التوابيت والمقابر إلى الضوء. في الحقيقة، يصعب جداً فهم كيف يمكن للبعض أن يعتبر أن كل ما قام به جورج عبد المسيح صائب، أو أن إنعام رعد لم يخطئ، أو عبدالله سعادة لم يجنح، أو أسعد حردان هو المهدي المخلص المحاط بهالة من القداسة. ومن المؤسف فعلاً أن حَمْلة التنين متعدد الرؤوس الفارغة لم تلحظ ما أورده الغاوي حول ما تعرّض له الزعيم من المخابرات البريطانية والأنظمة العربية المتعاملة مع اليهود وفرنسا وتآمر حكّام الشام مع اليهود وغيرهم ضده، وما واجهه في التربة الخصبة لدى “مدّعي الوصل بليلى” من داخل الحزب. هذا كلّه ليس مهماً عند هؤلاء، أما إبراز تجاوزات الآلهة من أسعد حردان إلى جورج عبد المسيح وأسد الأشقر وغيرهم فهذا زندقة وهرطقة بنظر عبدة الرموز والهياكل العظمية.

الرأس الفارغ الثاني للتنين الذي نفث دخانه الأسود بوجه الغاوي اشرأب من ركام مركز الروشة المتصدّع والمتهاوي. محوره الأساسي والوحيد “النزعة الفردية”. توأم مدام دي بومبادور، بطلة “من بعدي الطوفان”. هنا، حدّث ولا حرج، أو بالأحرى، إضحك مع محاضري العفاف. العنوان العريض عند هؤلاء المتلبسين صفة الشرعية هو ” الكتابة ممنوعة. القراءة ممنوعة. التفكير ممنوع”. وكل ما يخرج عن إطار هذا العنوان العريض يخضع/ حسبما ثبت في أكثر من مناسبة، وخاصة بالنسبة لكتاب شحادة الغاوي/ إلى المقاييس التالية، قبل إصدار قرار المقاطعة والمحاربة، طبعاً، كما حصل مع الغاوي:

– التزام الكاتب بتقديم ولاءات الطاعة والتبجيل لريس الروشة.

– عدم التعرّض للتجاوزات أو انتقاد “المتسلبطين” على السلطة في الروشة.

– المادة المكتوبة يجب أن تصب في مصلحة الاعتراف بشرعية خارقي الدستور وأصحاب السجلات بالاغتيالات داخل الحزب والمشهّرين بالقوميين ذوي الإمكانيات الفكرية.

شحادة الغاوي، في كتابه الأخير، لم يستوفِ أيّاً من هذه الشروط. فهو كتب ووثّق وبحث لسنوات ليضع بين أيدي قرّائه مبحثاً يبين حقائق وأفعالاً وأموراً حاول العديد طمسها أو كتمانها. وهو لم يبخّر ولم يمدح ولم يزحفط، ما استدعى مجلس عمد الروشة المتداعي لإصدار قرار بمقاطعة الغاوي وكتابه (على فكرة، تسعون بالمائة من أعضاء مجلس العمد لم يقرأ الكتاب، مهما ادّعوا عكس ذلك)، ولتجييش مجموعات للاتصال بمرافق ثقافية لسد الأبواب بوجهه، بدءاً بمركز بلدية الشوير، إضافةً إلى محاولات حثيثة مع القوميين ليوصدوا أبواب منازلهم بوجه هذا الثائر على هيمنتهم. كم كنّا نتمنّى لو حشدوا كل هذه الطاقات بوجه خصوم الحزب!

هذا “المركز” لا يمكنه أن يتحمّل أن يفكر القوميون ويكتبوا ويحللوا ويبحثوا ويتحاوروا في مسائل لا تتعاطى مع الانتخابات في لبنان أو الصراع على السلطة داخل الحزب أو تعديل الدستور تبعاً لأهواء شخص واحد، أو فرز القوميين على قاعدة “هذا من جماعة فلان وآخر من جماعة علتان”. مهنة التفكير والعقيدة والمبادئ تخلوا عنها بالمرّة، فالعقم الفكري ضارب أطنابه في كل ناحية من نواحي إدارتهم. “مش شغلتهم”. حتى أن مسؤولية رئاسة تحرير جريدة البناء، الناطق الإعلامي باسم الحزب، تخلوا عنها وأبعدوها عن القوميين لصالح عروبي معادٍ فكراً وعقيدةً وممارسةً للفكر السوري القومي الاجتماعي. شرِّعوا الأبواب، أيها الشرعيّون، لناصر قنديل واستقبلوا محمود عبّاس في الغرف الحمراء وبرروا تصرفات “منفذ عام” أبرق معزّيّاً بالأميركي القذر جون ماكين قاتل شعبنا في فلسطين والعراق والشام، أما الرفيق شحادة الغاوي، السوري القومي الاجتماعي الذي قدّم للحزب كلّ ما يملك لأكثر من خمسين سنة من عمره، فحاربوه وقاطعوه واقفلوا الأبواب بوجهه… وتعالوا حاضرونا بالعفاف، وما أفصحكم بذلك.

0
0