1.
لم يكن نزار بنات حزباً ولا جهازاً ولا جيشاً. كان صوتاً عالياً فوق العادة يخترق جدار الصمت، مفعم بالحماسة والنخوة والغيرة وما تبقى من فروسية وشجاعة، ولا يخشى في الحق لومة لائم. خصص لنفسه كوجيتو خاص به، عبر فيديوهات مصورة وبطريقته ليقول لسنا على مايرام! كان يكشف المستور، ويعرض العفن لشمس الحقيقة، ولكل من يسمع ويرى ويحلل، بانياً على الحدس الشعبي الأكثر منه استدلالاً، والضمير الجمعي وان كان تلقائياً. كان يكشف عن حقيقة أولية يجتازها بالشك كضرب من ضروب التفكير، وهو بالتالي دليل على رسوخ المفهوم التمردي الفاعل وليس الخامل، وغير القابل للترويض والتنميط والترقيم. وكما هو معروف فالكوجيتو (Le Cogito): لفظ يوناني بمعنى “أفكر” وفيه إشارة إلى مقولة ديكارت الشهيرة: «أنا أشك إذاً أنا أفكر، أنا أفكر إذاً أنا موجود!». ان الوجود هو ضمانة قول الحقيقة، بل ان الحق لا يستحق بدون الحقيقة، الحق في البوح وإن فاض، عطفاً على مقولة غسان كنفاني: «الحقيقة، كل الحقيقة للجماهير». وبهذا كان الشهيد نزار بنات يصدح: أنا انتقد، إذاً أنا حُر، إذاً أنا موجود! كان يشعر بحريته في كلمته، وأنه ليس مجرد ببغاء في قفص يردد ما يُلَقَّنُ من كلمات دون وعي بما يقول، وتحت رحمة مالكه. لذلك كان منسوب النقد بالغ المعنى بكل ما في اللغة من قسوة، من قهر، من شكوى، من احتجاج عفوي مُر، ولكنه صادق يحرض على واقع أقسى وأشد بذاءة.
2.
ذات زمن ثوري، ولد كوجيتو مظفر النواب يوم وجد من بيروت لنفسه منبراً وملاذاً. وفي زمن القوافي والفكر والكتاب والمجلة والجريدة والمسرح والفن والندوات، قال مظفر النواب الذي لم يقال في أي مكان. وفي كنف الثورة الفلسطينية، والزمن الثوري والقومي والوطني، لم يكن قانون الثورة نموذجياً في “ديمقراطية غابة البنادق”، ولكنه كان يتسع للهاربين من استبداد صحراء الرجعية العربية، ليمارس حشد من المتمردين العرب، ومنهم مظفر النواب، الكوجيتو الأكثر شراسة، يوم كتب على أحد شرفاتها نشيد «يا زهرة النيران في ليل الجليل»، بعد رحلة فرار حزينة من وطنه ومن قفص السلطان. وكانت صرخته مدوية في «وتريات ليليّة» حين كشف عورات الأنظمة، وشكك في عروبة كل من خذل القدس عروس العروبة. ظلت كلماته القاطعة كالسيف تشق الصمت، وتهرّب عبر الحدود كمادة ممنوعة بأشرطة كاسيت مسموعة تتداولها حلقات الطلبة في الجامعات والمقاهي وأرصفة المدن والمخيمات، تشبع الرغبة بالكلمات الصريحة حد الجرح، والكلمات البذيئة حتى الحرَج: «ما أوسخنا لا استثني أحداً» و«أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟». وكان يرد على نُقّاد قساوة لغته واتهامه بالهجاء السياسي ويطلب منهم بهدوء: «اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس.. أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه».
ان التقوقع الثأري وليس الهجائي هو الأكثر بذاءة في احباط الأمل واغتيال الروح، وقتل الرأي الكاشف. تلك البذاءة الثقيلة والكثيفة، التي صاغتها عقيدة “دايتون” لمعهد واشنطن عن وظيفة أمن السلطة بأنها «لتحري خيارات خفض وجود الجيش الإسرائيلي»، من خلال الدعم الأميركي، بينما العقيدة الأمنية وحسب نصوص أوسلو هو «التعاون لمحاربة الإرهاب». أصر دايتون أن هذا الهدف يرتكز على انتاج ما وصفه بـ “الفلسطيني الجديد”، الذي يترسخ في وعيه الباطني وسلوكه الأمني مع الجماهير وظيفة النيابة عن بذاءة الاحتلال الاستعماري. بذاءة ملعونة، بكل ما فيها من تحولات اجتماعية ناتجة عن هذا التمويل، أسست لذهنية نرى بصماتها الحادة في انتاج شخصية مطواعة ومستجيبة ومستكينة. كانت انتفاضة أيار الأخيرة هي أيضاً انتفاضة الفلسطيني المقاوم، جيل جديد انتصر على قيم حداثية وضع لها أسسها ومواصفاتها، بمحاولة صناعة «الفلسطيني الجديد».
4.
صدقت نبوءة جورج حبش باستناده الى القوة الأخلاقية أولاً، مستشعراً من اتفاق اوسلو أنّه «مشروع فتنة أكثر منه مشروع تسوية». كان الحكيم قد درس بدقة مطالعة اسحق رابين بتبرير توقيع اتفاق اوسلو، واعجاب الأخير بالاستراتيجية الامريكية لما وصفها بـ ” ڤتنمت الحرب”، اي ان تقاتل فيتنام الجنوبية فيتنام الشمالية، والتي اجترح منها عقيدة انه لا يمكن هزيمة الفلسطيني وتجريده من عناصر قوته إلا بـ “فلسطنة الحرب” ـ أي دفع كلفة الانتقال من مرحلة التحرر الوطني إلى السلطة، وتحويلها إلى مصلحة، ثم الانقسام على السلطة، ثم السيطرة الأمنية على مفاصل السلطة. ولنترحم على فرانز فانون الذي كشف عن العلاقة بين الاستعمار والاقدام السوداء. وهكذا انحسر الحقل السياسي إلى درجه العجز، فقرار التحلل من اوسلو وانهاء التنسيق الامني أعجز من ان ينفذها المستوى السياسي. ما قاله نزار بنات ردده اهل السلطة «نحن سلطة بلا سلطة»، ولم يكن أكثر مما قالته امرأة فلسطينية في القدس: «لا أمن لنا ولا أمان.. الامن للمستوطنين فقط». فالجريمة تكمن في المقدمات التي انتجت هذا الواقع، منهج التسوية الذي أنجب ما تلا من فشل وانقسام وتشظي وضياع، منذ بدأ اللهاث وراء سراب تسوية مستحيلة.
5.
تقول الأسطورة ان الاسكندر فشل في فك عقدة اورغيووم، التي ربط فيها الساحر حبل العربة بالمعبد، دون السيف الدمشقي القاطع. اليوم، هناك رابط استراتيجي بين غزة والقدس، عقدة هوياتية، ولدت روح وطنية جامعة، على غاية جامعة، بديناميات جديدة تفاعلت مع سيف القدس لأجل عاصمة الروح ونبض الامة. روح عابرة للجغرافيا، من نقبها إلى جليلها، وتجلت بأسباب الصراع بصورة حقيقية وموضوعية، ليست اقصائية أو رغائبية، فانتصرت العقدة الاسطورية التي استعادة الروح المعنوية والوطنية والقتالية، ووحّدة الارادة الشعبية ببعدها القومي والانساني، وبدون جولات الحوارات الفصائلية التي تجوب على العواصم القريبة والبعيدة بادراك التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني الذي هو أمير الظلام، وسيد العنصرية، وغول الاستيطان، ورمز الاغتصاب. استعادة العقدة الاسطورية مفهوم الصراع كحقيقة موضوعية، مستمرة، زمانياً ومكانياً، حققت انجاز الصمود والوحدة والمقاومة، والذي لا يكتمل دون البناء عليه كحدث ايجابي تراكمي بطبيعته، فالتراكمية معناها أن عدم القيام بالمطلوب في كل جولة يعظم الثمن المطلوب في الجولة القادمة. والانحدار هو تسويق الخيبات واحداث صدمة سلبية ونقلة كارثية مضادة للروح الوطنية.
6.
كان تحذير أنطون سعاده من تفسخ روح الأمة توصيفاً محقاً، ففقدان قوة الروح هو سبب للهزيمة، وبالتالي استعادة هذه الروح هي مقدمة للانتصار. ان تحويل الشحنة الثورية إلى قوة في خضم اشتباك مجتمعي شامل، وبوسائل متعددة نحو التناقض الرئيسي، تحتم واجب حماية النصر وليس احتواء مفاعيله، وتجديد العقد الوطني وليس تشظيه. الجريمة تستمر بتجديد ذهنية الانقسام، وتدوير مشروع الاقتتال و”مشروع الفتنة” لتبديد ما تحقق، واستعادة الاجترار السياسي الممل واللغة المقيتة. نحن اليوم بحاجة إلى سياسة وطنية جديدة، تعتمد على استراتيجية شاملة لتحقيق التحرير الناجز وليس أي شيء سواه. بين العودة إلى الوراء والتقدم إلى الأمام، علينا قراءة نقاط قوتنا، ونقاط ضعف العدو، وبما يقوينا ويضعفه. مرة أخرى يتأكد ان قوة الوحدة المستندة إلى طاقات الفعل الشعبي، الوطني والقومي والاممي، هي في الاستثمار في المشروع الوطني، وليس الفصائلي أو الايديولوجي أو الفئوي.. فيه وليس ضده أو خارجه أو على حسابه. لكن الجريمة تكشف حجم الانتكاسة الخطيرة في ضرب الغاية النبيلة الواضحة والجامعة. إن كل من يساوم على حرية المواطن، لا يحقق حرية الوطن؛ فالحرية لا تتجزأ، الوطنية والمواطنة مسألتان يجب ان تكونا متساويتين متوازيتين. مفهوم الوطنية يتنافى مع ملاحقة من يقاوم في سبيل وطنه، تحت خديعة “خفض الاحتلال”! ومفهوم المواطنة يتنافى جذرياً مع كل من يحتكر القرار، ويدعي امتلاك الحقيقية، ويصادر ويسكت الرأي الآخر. مهما كان الرأي صريحاً وجريئاً ونافراً، لكن لا يمكن قتل الحقيقة ولا ايقاف كوجيتو نزار بنات. آن لفكر الشهيد ان ينتشر كالنار في العشب الجاف، وكالسيف القاطع بولادة جديدة: «أنا أفكر.. أنا أنتقد.. أنا اقاوم.. إذاً أنا موجود». وليحذر السامع صوتنا وهو يصدح بصوت نزار بنات وفي استشراف لحنا ارندت حين قالت: «حين تُستخدم القوة فمعنى ذلك أن السلطة بالمعنى الحصري قد فشلت».
مروان عبد العال، روائي وسياسي فلسطيني.
1 Comment
أستاذ مروان؛
ما ذكرته في تحليلك الصائب من “لهاث وراء سراب تسوية مستحيلة” هو الدفيئة الملوثة التي أعاقت السير وضللت الطريق وقسمت الصف و كادت تودي بكل شيء. وهي لم تنجب سوى أشباه وشظايا رجال: عين على رضى المعلم الكبير وعين على الخلعة وسبل تعظيمها. وقد كان اغتيال الناشط الفلسطيني نزار بنات هو ذروة ما قام به هذا “الفلسطيني الجديد” وهو مسخ مخيف، يرى ان حدود الوطنية تقف عند ارضاء الرئيس الذي يجهد عبثا في ارضاء دولة الإحتلال. وبهذا تتحول هكذا سلطة، الحياة في فلسفتها السياسية محض “مفاوضات” إلى معمل يعيد إنتاج الفساد ويعممه ترغيبا او ترهيبا.
مودتي
وليد