زيد قطريب
القصة لا تعني عويلاً على المكتبات أو رثاءً للمعرفة في البلد، لكن الإعلان عن إغلاق مكتبة نوبل في دمشق، فتح الجروح الثقافية والشخصية للأفراد الذين تربطهم بالأمكنة والأفكار علاقة لها رمزيتها، خاصة أن إغلاق المكتبة يمكن أن يعني انطواء مرحلة كاملة تتعلق بالميول الذهنية ومزاج الجمهور وحالته الاقتصادية عدا عن التيارات التي كانت تمثلها مكتبات دمشق التي أغلق الكثير منها خلال السنوات العشر الماضية!
اليوم، يغلق الرفيقان جميل وإدمون نذر، مكتبة نوبل بعد خمسين عاماً كانت خلالها منبراً لإيصال الفكر القومي الاجتماعي، حيث لم تكن تتوفر كتب سعاده وبقية المفكرين القوميين إلا في هذه المكتبة، وفي سنوات سابقة، قبل دخول الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى الجبهة الوطنية التقدمية، كنا نشعر بالفرح لرؤية كتب المحاضرات العشر والإسلام في رسالتيه ونشوء الأمم تتصدر واجهة المكتبة مع الآثار الكاملة، حيث لم يكن الأمر مألوفاً نظراً لسرية الحزب وعدم ظهوره إلى العلن رغم غضّ السلطات النظر عنه وعدم ملاحقته بشكل فعلي!
بشكل ما، تعبر المكتبات عن حال الأيديولوجيات التي تبنتها في مرحلة ما، فمكتبة ميسلون التي لا يفصلها عن مكتبة نوبل سوى أمتار قليلة، سبق أن أغلقت أبوابها وتحولت إلى مركز صرافة، بعد أن كانت على مدار سنوات طويلة معروفة بتسويق كتب دار التقدم التي يطبعها الاتحاد السوفييتي وكل ما يتعلق بالماركسية اللينينية.. لقد قاومت هذه المكتبة حتى مطلع عام 201
في المقابل، لا يجد المتابع عناءً في رؤية ازدهار آخر تعيشه مكتبات شاءت تبني الكتب الدينية وكتب الطبخ والأبراج والفضائح، فهذا التحول حدث بشكل تراكمي وخلال سنوات من الفشل السياسي والقحط الثقافي وانتشار عقلية الاستهلاك في مجتمع يعاني الفقر المدقع ويميل رويداً باتجاه التطرف والانغلاق والكبت! بهذا المعنى يأخذ إغلاق المكتبات في دمشق بالتتابع، معاني عميقةً وهو من دون شك مؤشر لأشياء أخطر حدثت وسوف تحدث في السنوات القادمة!
المثقفون اليوم، ينعون مكتبة نوبل، لكنهم في الحقيقة ينعون أنفسهم بعد الهزائم التي مُنيوا بها فلم يبق أمامهم سوى البكاء على الأطلال، فمن الجانب السياسي، تحول الحزب الشيوعي إلى عدة أحزاب متناحرة وتلاشت شعبيته التي اشتُهر بها في الثمانينيات إلى حد مخيف، كما اضمحلّت أحزاب أخرى مثل حزب العمل الشيوعي، أما الحزب السوري القومي الاجتماعي، فعصفت به آفة الانشقاقات هو الآخر فأصبح عدة أقسام سياسية، رغم انتعاش عقيدته وانتشارها بشكل كبير عند فئات الشعب، لكن ذلك لم يُنجز سياسياً وذلك يرجع إلى المرض العُضال الذي أصاب الأحزاب الأخرى!
الثقافة الاستهلاكية أنتجت خلال السنوات السابقة أحزاباً بلا عقائد، حرص أصحابها على نيل التراخيص بعد صدور قانون الأحزاب في الشام عام 2011، لكنهم ظلوا خارج التأثير والانتشار ليقتصر وجودهم على عدة موظفين وأعمال تطوعية صغيرة كأنهم جمعيات أو نوادي..
الآن، لا يفكر الشباب بالأحزاب أو الثقافة وشراء الكتب، إنهم مشغولون بالهجرة، وتأمين المبالغ الضخمة التي يطلبها المهربون القابعون على الحدود لقاء تأمين “بلم” ربما يغرق بأحلامهم قبل أن يصلوا إلى الضفة الأخرى.. وبعضهم مشغول بالعمل ساعات طويلة من أجل تأمين لقمة العيش.. المشهد يبدو سوداوياً قاتلاً إلى درجة أنك لو أخبرتهم بإغلاق مكتبة نوبل، سيألون من هذه نوبل ومن تكون؟
سنوات طويلة من الحرب والإحباط والفشل، كان يختصرها مشهد إغلاق المكتبات في دمشق، لكنّ المهتمين بالشأن العام والمؤسسات وقادة الأحزاب كبروا وشاخوا ولم ينتبهوا إلى كل ذلك، لقد كانوا يركبون “بلماً” كبيراً ويأخذون أمة كاملة إلى قعر المحيط!