مصر وشرق المتوسط.. ولكنها ايران

Share

لفهم دروس الجغرافيا السياسية، علينا أن نتجرد من أمرين، الأول: هو العقائد والشعارات، لأنهما يقدمان في بنيتهما أمنيات أو رغبات أو انفعالات مهما كانت مشروعة وعلمية فهي بعيدة عن نتائج الحدث الذي ابتكر الشعار أو العقيدة، فالحدث لا يعطي نتائجه بعقد أو ربما قرن من الزمن.

 والثاني: هو الزمن، فالجغرافيا الأرضية مرتبطة بالإنسان والمجتمع، وهما العنصران الأعقد في لوحة المدينة الإنسانية المتمثلة في نهوض وسقوط الأمم والحضارات، وبالتالي يرتبط قياس الزمن بكون صيرورة انتقال الحدث بين الأجيال، وليس للعقود أو القرون أي قيمة خارج معطاها الإنساني الاجتماعي.   

إذا استطعنا أن نتجرد من هذين العنصرين، نرى أن ظهور قوة يحسب لها حساب في شرق المتوسط خلال تاريخ الهلال الخصيب يتضمن ثلاثة دروس جغرافية سياسية مهمة.

الدرس الأول: أن أي قوة غريبة عن البعد الجغرافي والاجتماعي لشرق المتوسط غير قادرة على السيطرة عليه بكامله، والبعد الجغرافي المتصل بشرق المتوسط هو حكماً بلاد ما بين النهرين. مما يفسر سعي جميع الأمبراطوريات السورية في مابين النهرين باتجاه الشمال (هضبة الأناضول) أي منابع الفرات ودجلة، ومن ثم الوصول إلى بداية شرق المتوسط في أوغاريت والاستمرار جنوباً.

 فمنذ الإمبراطورية الأكدية التي لا نعرف تاريخها من وثائقها الخاصة (العاصمة أكاد لم تكتشف بعد) بل من وثائق الدول اللاحقة لها إلى الدول السورية البابلية والآشورية ومحاولة الدولة التدمرية التي سارت على مسارها الجغرافي في الوصول إلى شرق المتوسط إلى التاريخ الإسلامي الذي لم يشذ عن هذه القاعدة أيضاً، فالعاصمتان الإسلاميتان الوحيدتان للإسلام كانتا دمشق، ثم بغداد، بينما لم تستطع العاصمة الاسلامية القاهرة الفاطمية وبعز قوتها ورغم اقترابها من المشرق بعد انتقال عاصمتها من المغرب العربي أن تسيطر على المشرق الذي كان في حالة يرثى لها من الضعف زمن الدولة العباسية. وبالتالي كانت المحاولات الفاطمية شبيهة بجميع المحاولات المصرية في عصور ملوكها القدماء الذين عرفوا اقصى حدود اتساع دولتهم في جنوب الساحل السوري (فلسطين) وربما محاولات خجولة للوصول عسكرياً إلى الفرات. وهو ما يفسر أيضاً تحول وسط الهلال الخصيب على امتداد الفرات تقريباً إلى مدار للتحارب المستنزف بين الامبراطوريتين الفارسية التي تسيطر على ما بين النهرين، والرومانية التي تسيطر على بلاد الشام.

ويمكن أيضا تذكر محاولات المغامر نابليون بونابرت واخفاقه في شرق المتوسط، ومحاولات محمد علي باشا وابنه إبراهيم في شرق المتوسط، وحتى الوحدة السورية المصرية لم تخرج من سياق هذه الحقيقة.

إن مختصر النقطة الأولى، يقول إن القوة المقتحمة على الهلال الخصيب لتسطير على شرق المتوسط ستواجه إما قوة أصيلة في الهلال الخصيب، كما حصل بين الرومان والدولة السلوقية، أو لقوة ما تسيطر على جزء من الهلال الخصيب، وهو ما يفسر الصراع الحثي والمصري على شرق المتوسط ومثيله المصري والعثماني.

فما سطره أجدادنا السوريون بعبارة “بين البحر الأدنى والبحر الأعلى” (أي الخليج الفارسي والبحر المتوسط) أو “الجهات الأربع” أو ما كتبه شروكين الأكدي الموحد لأول امبراطورية سورية “إن أي ملك يأتي من بعدي ويستلم الحكم إذا أراد أن يكون مساوياً لي، فحيثما وضعت قدمي فليضع قدميه وليحكم أيضا”، يُسر لنا عن نواميس ألغاز الجغرافيا لشرق المتوسط والعمق في ما بين النهرين.

الدرس الثاني: رغم ظهور مدن أو دويلات قوية في داخل ساحل شرق المتوسط فهي لم تستطع أن تحكم ساحل شرق المتوسط. بل يمكن القول بوضوح: إن هذه الدويلات التي كانت تشمل أحيانا عدة مدن، وبأقصى امكانياتها، كانت عسكرياً ذات نزوع للتوزان بين القوى الكبرى المحيطة بها. أو اقتصادياً تبتكر صناعة وتجارة تجعلان الجميع يحتاج إلى حيادها لوقت محدد. وهو تاريخ جميع هذه المدن ببساطة من أوغاريت إلى ماري إلى حلب إلى دمشق إلى صور. أو النموذج المكرر في عصر صراع الممالك السلجوقية في بلاد الشام التي أصبحت تحكمها كرقعة الشطرنج ولكل خانة أتابك مسلح يستمد شرعيته من توازن ما في بغداد.

الدرس الثالث: كانت جزيرة قبرص (التي كان الوالي معاوية يسمع صوت الديوك منها) القاعدة الأكثر حضوراً وتأثيراً في طبيعة القوة التي تحكم شرق المتوسط، فالسيطرة عليها تعني ببساطة التحكم بحياة واقتصاد الموانئ في ساحل شرق المتوسط.

نستطيع أن نفهم من الدروس التي ترسم ملامح قوة متحكمة في شرق المتوسط العبقرية السافلة التي ابتكرها السيدان سايكس وبيكو في تقسيم الهلال الخصيب إلى مجموعة من الدول، فهناك ثلاث دول تطل على المتوسط (الشام، لبنان، إسرائيل)، ودولتان تطلان على البحر الأحمر، والعملاق الاقتصادي والمادي العراق المحروم من ممر بحري إلا طاقة ضيقة على الخليج الفارسي، والكويت الصغيرة التي تستأثر بهذا البعد البحري. ويستطيع المراقب النزيه لهذه الحدود السياسية أن يعرف ويستنتج ماهية الخطوط الحمراء الممنوعة تاريخياً من قبل القوى العظمى صاحبة التقسيم والخطوط الموافق عليها.

مصر وشرق المتوسط تاريخياً:

يستطيع أبناء الهلال الخصيب التفاخر بأنهم سبقوا المصريين بالكثير من المنجزات الثقافية الحضارية قبل وبعد الكتابة، ولكن عليهم الاعتراف بأن الأمر الوحيد الذي سبقت مصر فيه الهلال الخصيب كان الوحدة السياسية، وأنها فوق هذا، كانت أكثر استقراراً وديمومة بشكل وحدتها. فالثبات في حكم مصر الموحدة كان أكثر ديمومة ورسوخاً من الثبات في أنظمة الحكم داخل الهلال الخصيب التي كانات كثيرة الصراع والتنافس في ما بينها للسيطرة على الهلال الخصيب، ولهذه النقطة أسبابها الكثيرة التي تحتاج إلى مقالٍ منفرد.

كانت مصر ولأسباب خاصة بطبيعة بيئتها، صاحبة مصلحة في تملك ما تستطيع حيويتها التمدد عليه من الهلال الخصيب. فبغض النظر عن الملك أو الوالي أو القوة أو النظام السياسي الموجود في مصر، كانت السيطرة أو ضمان ولاء القوى الموجودة في فلسطين ولبنان أمراً حيوياً لمصالح مصر الاقتصادية وجزءاً من قصة الحدث الجغرافي التاريخي للعلاقة السياسية بين مصر والهلال الخصيب.

وبالمقابل لم يكن لأي قوة إمبراطورية في الهلال الخصيب من مصلحة في السيطرة على أجزاء من مصر ربما باستثناء دخول أحد الأباطرة الآشوريين إلى مصر في عصر الأمبراطورية الآشورية الحديثة لتأديب مصر التي كانت تمول وتحض القوى الموجودة في الجنوب السوري لتشاغب على الإمبراطورية الآشورية، وسوى ذلك لم تُقدم أي إمبراطورية سورية على محاولة للتحكم أو الدخول إلى مصر، ولهذا أسبابه التي تحتاج مقالا منفرداً أيضاً. وإن تجربة الهكسوس تعكس استثناء تاريخياً على مستوى العالم لنتائج التغلغل التجاري والثقافي والاقتصادي الذي استطاع الدخول بهدوء إلى مصر وحكمها لعشرات السنين.

مصر وأمنها القومي:

ارتبط الأمن القومي المصري عبر التاريخ، بامتداد وادي النيل نتيجة لأسباب كثيرة أخطرها طبيعة البيئة الأرضية المصرية التي لا تقدم ثراءً زراعياً، وهو الأمر الذي كان يدفع الدول المصرية القادرة في مصر أن تتبنى اقتصاديات مركزية وشديدة التخطيط (على العكس من الهلال الخصيب). فكانت الأسر الحاكمة المصرية القديمة تسعى لضمان السيطرة وترسيخ الأمن عبر امتداد نهر النيل جنوباً، وضمان هدوء الحدود غرباً باتجاه ليبيا، والأسرة التي تنال التوفيق في هذين الموضعين تسطيع في ما بعد التغلغل والصراع على آسيا العربية.

تضخم خطر هذه القاعدة في السيطرة على مجرى نهر النيل في التاريخ الحديث، حيث شكل ظهور القوى العظمى التي تتمدد قارياً بمصالحها واطماعها لتسيطر على ثروات الأمم، ضرورة لتعميق معنى القاعدة السابقة بالنسبة إلى مصر، لتعني ليس فقط السيطرة على امتداد وادي النيل، بل والوصول إلى منابعه في تشكيل علاقات تمتد إلى القارة الأفريقية. فلتحافظ مصر على أمنها القومي الخاص لابد ان تلعب دوراً داخل القارة الأفريقية، لتضمن مصالحها الخاصة، في مراقبة القوى المتشكلة حول منابع النيل وتوجهاتها مع مشاريع القوى العظمى في القارة السوداء.

إن من وصف مصر بأنها إحدى بوابات أفريقيا الخطيرة ما فارق الصواب أبداً، وهو صواب فارقته مصر بعد الثورة 1952م حيث كان النظام الملكي يحتفظ ببقايا أدبية وسياسية للإشراف على السودان وبالتأكيد ضمن مراقبة النفوذ البريطاني المعرقل لهذه الحالة والذي كان يسيطر على مصر ذلك الوقت.

تبنت مصر بعد الثورة، وخاصة في حقبة الرئيس عبد الناصر، الفكرة التي تقول: إن أمن مصر جزء من طبيعة الصراع القائم في آسيا العربية، فأدخلت نفسها في خطط ومشاريع القوى العظمى الغربية في المشرق العربي، وهي القوى التي كانت تستطيع أن تتبنى جميع المشاريع فتدفع بشكل غير مباشر باتجاه أحدها وبالمقابل تقوم بتقوية مشاريع مناقضة فيحصل الاستنزاف الحيوي لطاقات الشعوب واقتصادياتها.

بالمختصر عرضت مصر أمنها القومي الخاص لأخطار شديدة، وهي تزاداد عاماً بعد عام مقابل الدخول في معارك بعيدة عن تحقيق أمنها الواقعي الأولى، فالانخراط في وحدة مستبدة مع سوريا وفتح معركة على الأنظمة العربية في الأردن والعراق ولبنان، والتورط في حرب اليمن وسواها من استراتيجيات التدخل في شؤون المشرق العربي كانت على حساب وضع رؤية مصرية لعلاقتها مع السودان ودول المنبع لنهر النيل تصرف عليها طاقتها وتركيزها.

إن ما يجري في فناء مصر الخلفي (السودان)، عبر العقود الماضية من حروب وصراعات مدمرة لهذا البلد الخصب والجميل كان في سببه المفصلي نتيجة لتخلي مصر عن الإشراف على شؤون السودان وخطورة الطموحات الغربية فيه.       

مصر وطوفان الأقصى:

لفهم موقع مصر بشكل واقعي، يجب الانتباه إلى حقيقتين:

الأولى: تخلي مصر عن استراتيجية قومية في أفريقية لحماية مصالحها القومية، وهو ما تقوم به اليمن حالياً التي انتقل إليها مفهوم البوابة لقوى الشرق نحو أفريقيا، ولنتذكر دعوة السيد القائد بدر الدين الحوثي لمصر لقيام تعاون معها بما يتعلق بمجريات الأحداث لمساعدتها، وأتصور شخصياً أن الامر يتعلق بدعوة مصر لدور متعاون بما يتعلق بالبحر الأحمر والقارة الافريقية، ومصر بالتاكيد لم تلتقط هذه الإشارة.

الثاني: تعتبر حرب تشرين التحريرية أنجازاً عظيماً للجيش المصري الذي سيطر على سيناء، ولكنه ترافق مع أخطر إخفاق سياسي استراتيجي لمصر التي تبنت بحسب معاهدة كامب ديفيد اللا مركزية الاقتصادية للدولة وارتباطها المالي بالغرب كمساعدات ومشاريع، وهما الوصفة المثالية لتأسيس الدولة الفاشلة اقتصادياً التي تقوم الآن ببيع أصولها المالية، وتحاول أن تبيع أوراق قوتها الجغرافية لمن يدفع ثمن استمرار هذه الدولة الفاشلة، فتراها في السنوات الماضية تبيع جزرها وقد تبيع قناة السويس.

إن من ينتظر من مصر القيام بأي دور ولو كان شكلياً أو مخففاً مؤيداً لغزة ومقاومتها الشريفة، هو واهم، ويحاول أن يعيش على الوهم ويسوقه. فما تقوم به مصر من محاولات التصدي لمسيرات اليمن والضغط على المقاومة في تفاصيل مسار المفاوضات، ومجاراة سياسة التجويع التي تقوم بها إسرائيل هو الأمر الطبيعي لمسيرة طويلة من تتابع النتائج لاستراتيجيات عرجاء تتجاوز الرئيس السيسي ومبارك والسادات وعبد الناصر، فجميعهم أسهم بشكل او بآخر في الوصول إلى مصر ضعيفة حتى على حساب مصالها القومية الخاصة.

لنستطيع فهم العقلية السياسة المصرية الحالية في إدارتها لواقع الحرب على غزة، علينا أن نعترف أن مصر ترى في سيطرتها على سيناء إنجازاً حربياً جغرافيا مشرفاً لجيشها، وهو إنجار مرتبط بالتمسك باتفاقية كامب ديفيد.

لن تتنازل مصر عن سيناء (وهي تخشى في هذه النقطة من أي طموح إسرائيلي/ امريكي لتغيير واقع سيناء) فانتشار الجيش المصري على الحدود في سيناء جاء لمصلحة هذه الخشية وليس لتعطيل أي مشروع تهجير، فلا مانع لدى مصر أن تُهزم المقاومة، ولا مانع لديها بقيام مشروع تهجير، وشرطها أن تكون هي جزء من الاتفاق عليه بين القوى المعتدية على غزة، وبالتالي تتحكم بعواقبه السياسية وتمهد لمجرياته الأمنية وتعرف أرباحها المادية التي تحتاجها بشدة. ومقابل هذا التمسك الجغرافي الأعرج لمصر بسيناء، لا يغيب عن تفكيرنا أن السياسة المصرية في أعماق كواليسها تعرف أن سيناء جزء من فلسطين وأن الفلسطينيين يعرفون هذا حتى ولو صمتوا عنه.

إن مفتاح فهم السياسة المصرية في علاقتها مع شرق المتوسط في نقطة غزة بالتحديد تظهر في تصريح وزير خارجية مصر في مؤتمر اقتصادي، وحديثه عن ضرورة معاقبة الجهة التي تقف وراء قوة حماس. وبالتالي إن تورط مصر في حرب مباشرة مع فصائل المقاومة هناك أو ابتكار مسرحية متفق عليها بين مصر وإسرائيل وأمريكا لتذليل عقبة الدخول الإسرائيلي إلى رفح (بالصورة التي يستطيع الأمريكي تسويقها إلى العالم) ليحقق دخول القوات الإسرائيلية إلى رفح نصراً ولو كان شكلياً.

إن تصريح وزير خارجية مصر عن معاقبة الجهة التي تقف خلف قوة المقاومة في غزة بمعناه المصطف خلف مشروع واضح بتبعاته، تعرض لسخرية سيكتب عنها الكثير مع الضربة الإيرانية على إسرائيل في الأيام الماضية. نعم، لقد وصل من يجب أن يعاقب (برأي مصر) إلى حدود مصر ذاتها قالباً توازنات كل ثوابت المشروع المصري ومن يقف أمامه وخلفه.

إنه حكم الجغرافيا والتاريخ الذي أنطقه طوفان عن علاقة القوى الفاعلة في شرق المتوسط واتصالها بعمقها في ما بين النهرين وإيران، وهو اتصال انتقل مع الضربة الإيرانية إلى معنى جديد كلياً في صراع شرق المتوسط.

مصر وميناء غزة:

كتب الكثير عن ميناء غزة الذي عرفنا معه بكل وقاحة أن الحرب ستستمر 60 يوماً وهي مدة إنجازه. وما كتب صحيح من أنه سيطرة أمريكية على مواقع الغاز في غزة، وقاعدة حربية أمريكية لتغذية إسرائيل وبديل عن ميناء حيفا الذي سيعتبر قريبا ميتاً سريرياً مع تطور تداعيات الحرب على غزة، ولكن ما يجب إضافته أن هذا الميناء هو العقاب الأمثل للحلقة الأضعف في المحور الممتد من بيروت إلى دمشق وبغداد وطهران، وهو النقطة التي ستشكل حكماً أنطلاق عقاب جديد بعد الانتهاء من غزة إلى حزب الله.. ويبقى السؤال أمام ما يجري بعد الضربة الإيرانية، هل يسمح الزمن أصلاً بسلوك من هذا القبيل؟

مصر التي نريد:

لا يحتاج المشرق من مصر أن تمزق اتفاقية كامب ديفيد، ومطالبتها بهذا القرار ليس أكثر من خطاب شعبوي لا يريد أن يحدث جمهوره بأصول تمزيق الاتفاقيات عبر التاريخ.

إن صورة الساحات المترعة بالملايين التي نزلت في مصر لتغيير رئيس الجمهورية مبارك، بغض النظر عن دوافعها والجهات التي تقف وراءها، وهي ساحات خجولة حالياً من مظلومية غزة، لا تثير أي حس من السخرية التي يعتقدها البعض صائبة. فلم تكن مسألة فلسطين يوماً قضية مصرية. إن فلسطين هي إحدى مسائل المشرق العالقة عندما مزقته فرنسا وبريطانيا في اتفاقيات سايكس وبيكو وبلفور وسان ريمو وسواها، ولقد أضاع المشرق وقتاً ثميناً وحيوية هائلة عندما كان يعتقد بواقع مسؤولية قضية فلسطين كقضية عربية وقضية إسلامية فساوى بين حقوقه القومية وحقوق الآخرين.

إن مصر التي نريد هي مصر القوية والمستقلة بقرارها لتحقيق مصالحها الوجودية، في ظل الأخطار التي تحيق بها بعد الطوفان. وهي ليست أخطاراً قادمة من المشرق الذي يدافع عن نفسه حالياً، بل من اقتصادها المفتوح للنهب العالمي بعد اتفاقية كامب ديفيد وتخليها عن مركزية الدولة التاريخية في التحكم بالاقتصاد. هي أخطار تتعلق بالحرب التي تدور في  بعدها القومي السودان، فالحرب هناك تمول من ذات الدول النفطية الخليجية التي مولت وما تزال حروباً طويلة في المشرق من حروب العراق العبثية إلى حرب احتلاله وما لحقها من دماء إلى الحرب السورية. هي أخطار تتعلق بالتباينات المزمنة والشديدة القسوة في الواقع المعيشي المصري بين المدن بحد ذاتها وبين المدن والأرياف. هي أخطار قادمة على شكل تقدمات لأموال هائلة من الخليج النفطي لمشاريع لا تصب في قوة حقيقية للاقتصاد المصري.

إن المشرق يريد مصر قوية، كيلا تكون وسيلة لتمرير مشاريع غربية على قضايا المشرق الخطيرة في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، فقد أثبتت العقود الأخيرة من الزمن أنها مشاريع قادمة لتدمير الجميع واستغلالهم وتفتيتهم وليس وصول هذا التفتيت إلى الدول الممولة والمنفذة لهذه المشاريع من تركيا ودول نفطية إلا قضية وقت.

سوى ذلك، إن مصر أمام واقع خطير جدا في الجغرافيا والتاريخ، عندما تظهر قوة متفاهمة في شرق المتوسط ومتصلة بعمقها المادي والنفسي إلى العراق وإيران، وبذراعها القادمة إلى ساحة التأثير الدولي القوي المتمثلة في اليمن.       

0
0