متلازمة الهروب والمعرفة أزمة اللجوء والعنصرية-نجيب نصير

Share

يمرّ العالم في هذه الحقبة بطور انتقال إلى مرحلة معرفية جديدة، تبدو شمولية وضخمة هذه المرة ويمكن لها أن تهدد الوجود الفيزيائي نفسه للمجموعات السكانية التي ترفض المفهوم الحديث للاجتماع البشري الذي يتمظهر في الدولة المدنية المعاصرة. هذه المجموعات السكانية لن تقوى على مواكبة الإنتاج المعاصر مهما فعلت. لا بل سوف تدفع ثمن تخلفها هذا، تحديداً وأضعافاً مضاعفة،

موغلة في الجوع المعرفي والثقافي، بالإضافة إلى سحل مقوماتها الإنتاجة والثقافية في زواريب الضعف والتردي. ولعل ظاهرتي الهجرة واللجوء الغريزيان، وبهذه الكثافة، إلى حواضر الكرة الأرضية، تعطيانا فكرة عن الدرك الحقوقي الذي وصلت إليه تلك السكانيات

لقد كان القرن العشرين قرناً تبسيطياً أمام ما ستواجهه تلك الأطر السكانية المشار إليها من صعوبات وجودية. فالمعرفة في أنطلاقتها هذه سوف تغيّر المفاهيم المسلّم بها. والذي لم يلحق بتحقيق تلك المفاهيم وممارستها، لن يجد له مكاناً حتى في العربة الأخيرة من القطار. هذا ما تتحسسه غريزياً فئران السفن الغارقة، ما يجعل من الهجرة واللجوء، مؤشر جدير بالملاحظة والتمحيص، فهو حبل الوصل بين المكانين، الجهالي والمعرفي، وعند هذه النقطة بالضبط سوف تقع مشكلة تفسير العنصرية. فالجهالي هو من فشل في تأسيس مجتمعه المعاصر، مولداً منه الدولة الحديثة التي يعرفها القاصي والداني، والتي تتميز بإبتعادها عن العنصرية خضوعاً لتجربة المساواة/الإندماج، نتيجة بعض تجارب القرن العشرين الحياتية ومنها الفاشية والنازية وألأبارتيد والصهيونية. أما المعرفي الذي أنشأ مجتمعاً وطوره، وأدمجه بقوة القوانين، فلسوف يصاب بصدمة عدم كفاية قوانينه لإدماج المهاجرين، وهذا بالذات موضع الأخذ والرد، وإنقسام الرأي والرؤى حول مسألة الهجرة واللجوء. ولسوف يحيل “المهاجر” أو طالب اللجوء كل صعوبات هذا الإنتقال، إلى سوء طويّة الحداثة، التي تمخضت عن يمين شعبوي قد لا يتناسب مع مستقبل وجوده، في مجتمع ذي هوية ناجزة.

نحن أمام رؤى مستجدة للقيم من خلال هذا التصادم غير المفاجئ. لقد وعى جلّنا الدنيا على وقع سِيَرِ المهاجرين وحكاياهم، ووقائع مغادراتهم القسرية أو الطوعية، والتي تتضمن وتشير إلى الهجرة على أنها مجرد إنتقال مكاني. فالمهاجرون السابقون الذين يشكّلون جماعة ثقافية بإنتظارهم في بلاد المهجر، ما ينبىء عن جهوزية للدخول في الغيتو المعرفي الجاهز هناك، في مجتمعات تجاوزت زمن الغيتو الكلاسيكي المقابل للغيتو الكلاسيكي الجهالي ومفاعيله، والذي يسقط معارفه على تفسير القيم المجتمعية لبلدان المصب. وطبعا لا لزوم هنا للتذكير بأن التعميم قتّال – إذ أن المعايرة هنا تتم على أساس الظواهر، والمشاكل المجتمعية النابعة من الفوارق المعرفية المؤدية إلى سلوكيات كلاسيكية صادمة، من دون إعطاء أي إهتمام لعاملين في غاية الحساسية هما:

الأول: فهم القيم المؤسسة لمجتمع الرخاء القادر على استيعاب الهجرة التي عليها تبنّي هذه القيم، وليس مراعاتها فقط، أو مقاومتها، أو تفسيرها بالمعايير القديمة، فالحرية مثلاً هي حرية مقننة ومسؤولة، وليست مجرد صورة معكوسة عن الحرية في بلاد المنشأ.

الثاني: الفهلوة والتعالي، وهي منظومة معرفية شوهاء، ومضادة للحضور المجتمعي، عبر العمل، والمحافظة على الملكيات العامة، والمشاركة الإيجابية في النشاط المجتمعي وإلخ من مجموعات القيم الممارسة والمؤدية إلى الإنتاج، صانع الهوية ومشهرها، حيث تتوحد نشاطات جل المهاجرين على إستعادة ثقافة (وليس فلكلور) بلاد المنشأ، في إستغلال معاكس وسلبي للحقوق الناظمة للمجتمع، بطريقة إستعلائية تستثني نفسها من إستحقاقات الإنتماء، بحجج مثل تمايز الهوية التي لم تنجز مطلقاً.

هذان العاملان هما من يقودا الغيتويات المتعددة إلى العنف، إن كان على شكل جريمة منظمة، أو على شكل فردي تحت غطاء السمعة العنفية، أو بشكل فهلويات إبتزازية كالعيش على تعويضات البطالة أو اللجوء، أو حتى على فرض معارك أيديولوجية تحت لافتات الحقوق والحرية والديمقراطية، كقضايا النقاب، والبوركيني، وختان الإناث. وفي هذا تعبير عن عدم الثقة بالمجتمع كوصفة لعلاج الفوضى والعنف، وهو عكس التسالم

المبرر الأول لحصول المجتمع. وبالتالي فإن الإنتقال المعرفي الحالي للمجتمعات، يجعل من هؤلاء المهاجرين إليها على مبعدة مرحلتين معرفيتين عن الواقع الفعلي لها، وبالتالي يمكن للكثير من القيم أن تتغير ومنها العنصرية بمعناها القديم.

يعلو الصوت هذه الأيام حول صعود اليمين الشعبوي في دول العالم الأول، الذي يناوىء الهجرة والمهاجرين. هذا الصوت العالي يتناسى موضوعين فاقعين، الأول هو أن هذا الصعود تمّ ويتمّ في الإطار المجتمعي المحكوم بالقيم الديموقراطية؛ والثاني هو أن اليمين الشعبوي هو أساساً متوفر بشدة في بلدان المنشأ، وليس غريباً عن التربية الثقافية للمهاجرين. فإنتخاب محمد مرسي في مصر(مثالاً فقط) ديمقراطياً، جاء باليمين الشعبوي إلى الحكم، وهذا لم يردع أحدًا من أن يحاكم شعوب المصب بمعايير مُختَلَقَة، لتدينها بالعنصرية التي تنتمي إلى زمن معرفي سابق.

لا يمكن وصف صعود اليمين الشعبوي بالعنصرية الكلاسيكية. فهذا التعريف تغيّر كثيراً ما بعد النازية، وما زال متوفراً في بلاد المنشأ كتعريف وممارسة. ولنا في الكثير من دول أوربا وأمريكا، أمثلة كبرى في مقاومة العنصرية الكلاسيكية، وألمانيا على رأسها. فهذه الدول جميعها كانت قابلة لتقبل ألإندماج، من ضمن ممارساتها المجتمعية، القائمة على المساواة التعاقدية. وهذا ما أخلّ به الوافدون بطرق كثيرة، على رأسها الإرهاب، ما خلق مشكلة كبرى لدى الرأي العام. وهنا لا بد من فسح المجال للمعرفة المستجدة لأخذ دورها في الدراسة والتقييم وإيجاد الحلول. ولعل تركيا كانت أول المبادرين لإتخاذ الإجراءات العملية تجاه الوافدين، بممارسة حملات إعادة هؤلاء الي بلد المنشأ. وهنا يمكننا المقارنة بين أداء اليمين الشعبوي الجهالي، واليمين الشعبوي المعرفي، لنتبين أن تركيا ومن شابهها غير معنية بالإندماج، على الرغم من عدم إخلال وافديها بالممارسة المجتمعية العامة، بينما تقع إخلالات تهدد الهندسة الاجتماعية في بلدان المعرفة. من هنا تبدو المسارعة الى إتهام الدانماركيين (مثالاً فقط) بالعنصرية نظراً لفوز اليمين بالإنتخابات، مسارعة تأثيمية تثريبية. فهي بالإضافة إلى كونها متأخرة وفيها الكثير من قلة الوفاء ورد الجميل، تبدو ملفقة تماماً، ليس بالنسبة الى تعريف “العنصرية” الجديد فقط، بل بسبب العناد في رفض الإندماج، تعبيراً عن مشاعر التمايز والإستعلاء المؤدية الى العنف

المشكلة التي نحاول طرحها هنا، هي تلك الحالة العميقة من الفشل بالإنتقال المعرفي من قبل المهاجرين، والتي لا تشبه كمياً ونوعياً، حالات الإرتقاء المعرفي المتدرجة في بلدان المصب، التي أنتجت في سياقات هذا الإنتقال “عنصرية” كقيمة عالمية جديدة، مختلفة عن سابقاتها من أنواع العنصرية/العنصريات الكلاسيكية البائدة. فهذه العنصرية المحدثة التي يواجهها المهاجرون، تتجاوز معايير الإدانة والتثريب والنبذ، وذلك بإعتماد معايير الإنجاز المعرفي، مع المحاسبة على هدر الفرص. فالمجتمعات، وأيضاً التجمعات السكانية، تبدو مضطرة

للإلتحاق بحالة الإرتقاء المعرفي الحالية، وإلا سقطت في مستنقع الإزدراء، توصيفاً وفعلاً، كمستنقعات وبؤر تمارس وتصدّر البؤس المعرفي، والتخلف الحضاري، في تغييرجذري لمعنى “العنصرية” الآفل.  وهنا لا تشفع شرعة حقوق الإنسان لحضور قيمة المساواة الإنسانية، مقابل التخلف المقوّض لتحولات الإرتقاء المعرفي، وإعاقة التقدم عبر ممارسات جحافل المهاجرين. كما لاتنفع محاولات دفع بلدان المنشأ إلى الإلتحاق بالأنموذج المعرفي الحالي لإعاقة الهجرة. فهذه البلدان تحولت بفعل التقصير المعرفي، وإهدار الفرص، إلى مستنقعات للعنف والجهالة ولزوم ما لا يلزم، بحيث تزداد الهوة بينها وبين الشبع والمنعة. وهنا علينا تجاوز ذكر الأمثلة منعاً للسقوط في السياسي التكتيكي، أو الدخول في مماحكات التراثي الديني. فالمسألة في مجموعها، تجتمع تحت راية إجهاض النهضات، التي لم يستوعبها أحد من حكام ومحكومين، والتي لا ينفع في شرحها أو تبريرها، خيال المؤامرات مهما كان واسعاً.

عالم اليوم المعرفي لا يمارس عنصرية تحاقدية إستلافية، كما أنه لا يمارس تنافسية تبسيطية على الكلأ والماء. إنه سياق معرفي تطبيقي، ومن لا يستطيع ممارسته سوف يسقط بين مسنناته مع سابق تنبيه وتحذير، من خطورة البقاء في مستنقعات الجهالة، مهما كانت مبررة بالخصوصيات التي تصل إلى حدود التقديس. إذ أن معايير هذه الجهالة تضعها معرفيات عالم اليوم دون هوادة، فلن يقبل عالم اليوم عنفاً أو فوضى لا تنتمي أسبابها ومبرراتها إلى عالمه هو. وهذا مرتبط تماماً بالقيم والمعايير التي يضعها هو، ولا يبقى لمستنقعات العنف والخديعة والإستبداد من خيار إلا الفناء الحضاري .

0
0