قبل مائة سنة بالتمام والكمال، وقف استعماري فرنسي هو الجنرال هنري غورو في قلب بيروت ليعلن قيام دولة “لبنان الكبير”، بحضور مؤيدين لا يرون في فرنسا إلا أنها “أمنا الحنون”!
وأمس جال في بيروت المنكوبة رجل فرنسي ذو طموح استعماري هو الرئيس مانويل ماكرون، ليبلغ اللبنانيين المكلومين بكل صفاقة أن النظام في لبنان يجب أن يتغّير، وأنه سيدعو إلى مؤتمر دولي للبحث في الوضع اللبناني.
مشكور ماكرون أنه زار بيروت للإعراب عن تضامنه مع شعب هزته كارثة الانفجار في مرفأ بيروت.
مشكور ماكرون أنه اعترف ولو متأخراً بأن النظام السياسي في لبنان بات عاجزاً عن أبسط موجبات الحكم تجاه المواطنين.
مشكور ماكرون أنه أدان بالصوت المرتفع الطبقة السياسية المسؤولة عن تحويل الفساد إلى نمط راسخ يمارسه أرباب السلطة على كل المستويات.
مشكور ماكرون أنه المبادر إلى عقد لقاء يحضره “أصدقاء لبنان” بهدف التنسيق في ما بينهم لتقديم المساعدات العاجلة إلى اللبنانيين.
… والمجاملات تتوقف عند هذا الحد تقديراً لمشاعر التضامن الإنساني، ليبدأ الكلام السياسي الواقعي.
ونصل إلى ذروة النفاق عندما يؤنبنا ماكرون على فساد الطبقة السياسية المستشري على كل المستويات في لبنان!!
لن نخالفه الرأي، لأن هذا هو واقعنا المناقبي للأسف الشديد. لكن هل كنا نحن من يفتح أبواب الإليزيه أمام أساطين الفساد اللبناني على مدى العقود الثلاثة الماضية؟ هل قدم لنا مهندسو الفساد وأربابه الشقق والقصور والودائع والهدايا الباهظة، أم أن المسؤولين الفرنسيين على أعلى المستويات كانوا يتنعمون بثروات اللبنانيين المنهوبة؟
ولأن ماكرون أراد الصراحة التامة، فها نحن نصارحه بالمثل: أكبر الفاسدين والمفسدين في لبنان هم من حلفاء باريس، ويتم التعامل معهم كجزء من مخططات الغرب في المنطقة. وبما أن “أصدقاء لبنان” سيجتمعون تحت جناح “الأم الحنون” قريباً، فهل يمكنهم الكشف عن أكثر من مائة مليار دولار هرّبها “الحلفاء الفاسدون” إلى المصارف الغربية؟ ثم ليتفضل الرئيس الفرنسي واصدقاؤه بإعادة المال المنهوب إلى خزينة الدولة اللبنانية… وسنكون بغنى عن المساعدات المشروطة بمواقف سياسية.
هذا على مستوى من يحاضر بالعفاف في مسائل الفساد والإفساد. أما على مستوى طبيعة التغيير، فنحن نتفق مع ماكرون وغيره على أن لبنان بلغ مرحلة اللاعودة. إذ لا مجال أبداً لاستعادة النظام الطائفي حتى بعد التعديلات التي أدخلت عليه في 1943 و1958 و1976 و1989 و2008… وكلها فشلت على الرغم من الرعاية الإقليمية والدولية.
أما ماكرون، الذي تركناه في مؤتمر “أصدقاء لبنان” يجاهد لاسترجاع الأموال اللبنانية المنهوبة، فسيكون خارج قاعة المؤتمر التأسيسي حاملاً بيمينه صكاً مصرفياً بمائة مليار دولار ليسلمه إلى القيادة الوطنية الجديدة المنبثقة عن المؤتمر.
اللبنانيون أمام لحظة مصيرية مفصلية: إما أن نسمح لماكرون باستنساخ غورو مجدداً. أو نواجه مأساتنا بعقلية وطنية مختلفة، فتخرج بيروت من نيرانها مثل طائر الفينيق المنبعث من الرماد. إنها مسؤوليتنا… وقدرنا.