ماذا فعلت الظروف “المجنونة” بـ”معهد صلحي الوادي”؟

Share

الداخل إلى معهد صلحي الوادي للموسيقا، بدمشق سيلحظ أن نبتة “المجنونة” بأزهارها البنفسجية عرَّشت على طول المبنى تقريبًا، وباتت تحتل جزءًا كبيرًا من لافتته، وبالأخص كلمتي “معهد” و”موسيقا”، والمُطَلِّع على ما آلت إليه أمور هذا الصرح الثقافي الذي تأسس عام 1961 تحت اسم “المعهد العربي للموسيقا”، سيُقارب بين فعلة “المجنونة” وما تقوم به الإدارات بهذا المعهد. فبعد الانضباط الهائل الذي كان يتمتع به أيام صلحي الوادي، والالتزام العلمي والأخلاقي المديد من قبل أساتذته المؤسسين، أمثال: ناديا الصايغ، وإلهام أبو السعود، وفايز زهر الدين، وسفيتلانا الشطا، وماري بطبوطة، وخضر جنيد، وأولغا يعقوب، وفكتوريا صنوبر، وغيرهم، نسمع اليوم عن تراخٍ ما بعده تراخٍ، والسبب الرئيس، كما نُمي إلينا من مدير المعهد الحالي “بريام سويد”، أن قيمة المكافأة المالية التي يتقاضاها مدرسو المعهد لا تكفيهم أجرة طريق، وتاليًا هو غير قادر على إلزامهم بالدوام، ولذا فإن كثيرًا من دروس الآلات والصولفيج من مختلف السنوات، تراها متوقفة تماماً، أو محدودة جدًا في أحسن الأحوال، وخاضعة لمزاجية الأستاذ، الذي بات تدريسه في معهد صلحي الوادي في ذيل أولوياته، حتى لو كان من خريجيه بالأساس، إذ يلجأ إلى الدروس الخصوصية، أو يهتم بحفلاته في دار الأوبرا، أو بظهوراته التلفزيونية، بعيدًا عن التزامه بواجبه تجاه طلابه ضمن هذا المكان، وحتى وإن حضر في أحد أيام الأسبوع، فيكون ذلك إما خجلاً، أو رفع عتب، أو في أحسن الأحوال نتيجة وخزة في ضميره، مع أن ذلك نادر الحدوث.

واقع صعب

الأسوأ من ذلك أنه لدى شكوى الأهالي من أن أولادهم لا ينالون حقهم من الدروس والاهتمام، ثمّ بماذا سيُمْتَحنون في نهاية الفصل الدراسي، الذي لم يحضر فيه أستاذ الآلة سوى مرة أو مرتين، ومثله أستاذ مادة الصولفيج، فإن إدارة المعهد تُقِرّ بأن هذا الوضع غير صحي ومُتعب للجميع، وأن الواقع صعب للغاية، وفيه الكثير من التفاصيل التي توجع الرأس والوجدان معًا. فمن جهة، لا ميزانية خاصة بالمعهد يمكنه مطالبة وزارة الثقافة برفعها من أجل زيادة تعويضات الأساتذة، مما قد يبعد السبب المادي من البروز كأهم أسباب عدم التزامهم بالتدريس، والوزارة لا تضع هذا الموضوع نصب عينيها، وتتعامل مع الهيئة التدريسية للمعهد كأنهم موظفون، بعيدًا عن خصوصية هذه المهنة وندرة كوادرها المؤهلة للقيام بالمهام الموكلة إليهم.

يُدرِّس “من قفا إيده”

من المآزق التي تعترض معهد صلحي الوادي أيضًا، أنه عندما طالب بعض أهالي الطلاب باستبدال أستاذ الآلة، غير المُكتَرِث بأبنائهم وتحصيلهم الموسيقي، وشعورهم أن حضوره وغيابه سيان، لأنهم يدرس تلامذته “من قفا إيده” كما يُقال، جاء الرد من إدارة المعهد، أنه ليس في يديها مثل هذا الخيار نهائياً، والسبب في ذلك يعود إلى أنه في حال اعتذار أستاذ الآلة عن التدريس فإن البديل غير متوفر، وفي حال توفر المُدرِّس لبعض الآلات، فإن الأجر المُتدنّي، والمُخجِل حقيقةً، لن يقنعه أبدًا بالالتزام بدَوام، لأن المُقابل المادي غير متكافئ البتة مع  الجهد المبذول، لاسيما في ظل الأوضاع الرديئة للقطاع الوظيفي السوري.

نهاية عقد الآجار

والأنكى من كل ذلك، كما علمنا من مصادر موثوقة، أن المبنى الذي يحتله معهد صلحي الوادي، في منطقة العفيف، سينتهي عقد آجاره في الشهر الثالث من العام المُقبل، ولا قدرة لوزارة الثقافة على تجديد ذلك العقد وفق المُعطيات المالية الجديدة التي فرضتها الحرب على سوريا، وهذا الأمر مُقلق جدًا للإدارة التي لا تدري حتى الآن، هل تستقبل طُلابًا جددًا في السنة التحضيرية للمعهد، أم تستثني هذا العام من استقبالهم ريثما ترسو الوزارة على قرار واضح المعالم بهذا الشأن، سواء أكان مكانًا جديدًا، أو انتقالاً إلى أحد المراكز الثقافية في المزة أو مجمع دمر الثقافي أو العدوي… وهو ما يُلمِّح إليه البعض كحلّ مبدئي، بدل أن يتوقف المعهد نهائيا.

كل ذلك بدأ يشعر به أهالي الطلاب، ويصل إلى مسامع بعضهم ما يُشاع عن حال المعهد، فضلاً عما يلمسونه بأيديهم، وهو ما دفع “ماهر” الذي تدرس ابنته الغناء الشرقي في السنة الخامسة إلى اتخاذ قرار جدي، بإيقاف تسجيل ابنته في السنة القادمة، إذ إنه إضافةً إلى عناء المواصلات وتكاليفه العالية من جرمانا إلى منطقة العفيف، فإن “الجدوى الموسيقية”، كما وصفها، تكاد تكون معدومة، لذا بات يُفضِّل أن يُسجِّلها عند أستاذ خاص يزورهم في بيتهم، وبهذا ما يوفره من أجور المواصلات يدفعه أجرة للدرس، لكنه في المحصلة يضمن التزام الأستاذ، وأن ابنته ستكسب في كل درس معلومات جديدة، وتتدرب باستمرار، وتاليًا لا تفقد شغفها، الذي بات يخبو شيئًا فشيئًا بحكم التَّوتُّر الذي خلقه حال المعهد الموضوع على “كف عفريت”.

المَطَبّ نفسه

بالمقابل عندما زارت “سمية” والدة أحد طلاب آلة الأكورديون في السنة الثالثة إدارة المعهد، مُطالبةً بنقل ابنها إلى آلة أخرى، لأنه خلال فصل دراسي كامل لم يأخذ ولا درسًا واحدًا، وأن أستاذه دائمًا ملتزم بحفلات في دار الأوبرا، وفي المحافظات، وضمن برنامج مسابقات تلفزيوني، على حساب تحصيل ابنها الموسيقي، كان رد الإدارة أن نظام المعهد الداخلي لا يدعم هذا الخيار، وأنه لو قدَّم لها استثناءً بهذا الخصوص، فإن وضع بقية الأساتذة ليس أفضل حالاً، وبالتالي ستقع في المطب نفسه، أو سيكون الخيار محصورًا بآلة الترومبيت مثلاً، لأن أستاذها ملتزم وجميع الأهالي يشيدون بذلك، موضحًا أنه لو قدَّم مُدرِّسو بعض الآلات الموسيقية اعتذارهم عن التدريس في المعهد، فإنه لا بديل لهم، وسيكون مضطرًا لإلغاء صفوف تلك الآلات، مقابل منح وثيقة للطالب بأنه أتم دراسة السنة كذا في معهد صلحي الوادي على الآلة الفلانية، وليس في يده أكثر من ذلك، مؤكداً أن وضع المعهد بعد ستين عامًا على تأسيسه ليس مثاليًا على الإطلاق، وأن مطالباته برفد الهيئة التدريسية بأعضاء جدد باتت حتى  الآن بالفشل، وموضوع التعويض المالي للحصة الدرسية على رأس الأسباب التي تحول دون موافقة أي مدرس على القبول، أو حتى مجرد التفكير بصرف جهده من دون مقابل جيد أو يحمل أدنى صفات المعقولية.

بمعنى أن معهد صلحي الوادي يعيش الآن أسوأ حالاته، بعد أن كان صرحًا يضج بالحياة، ومنه تخرَّج العشرات ممن تابعوا دراستهم الأكاديمية في المعهد العالي للموسيقا، وبات البعض منهم في مفاصل إدارية مهمة، بينما بعضهم الآخر يُذهل جمهور المسارح العربية والعالمية بالعزف والغناء وإدارة الأوركسترا… لكن على ما يبدو أن الظروف المجنونة التي تعيشها البلاد، وعدم تقدير أهمية استمرار مثل هذا المعهد على قيد الحياة والموسيقى، سيجعل أكثر من ألف طالب مسجلين على قيوده الآن في مهب الريح، أو على الأقل سيبحث أهاليهم عن خلاص أبنائهم الفردي، بعيدًا عن هذه المؤسسة التي لم تعد قادرة على المضي قِدَمًا، في ظل ذهنية، لا تبالي بصرف مئات الملايين على السينما، بينما تقف مكتوفة الأيدي أمام ضخ الحياة من جديد لصرح انبثقت منه نُوى لأهم الفرق السورية سواء لموسيقا الحجرة أو الأوركسترا أو السيمفوني، التي نتباهى بها وبإنجازاتها الكثيرة.

0
0

1 Comment

ريمون الجمل 24 مايو، 2022 - 2:19 م

شيء محزن البارحة مساء سمعت من الفنان دريد لحام يتكلم عن وجود هذا المعهد واكيد انه لا يدري بهذه الازمة والا لذكرها.
هذا جزء بسيط مما تعاني منه الشمام

Post Comment