نُشرت مقالة “الرفيق” هنري حاماتي، “مات وسيم زين الدين! واستراحوا”، في عدد 23 حزيران عام 1978 من مجلة “النهضة” التي كان يصدرها القوميون الاجتماعيون في أميركا الشمالية، من مدينة أوتاوا الكندية. نقرأ هذه المقالة اليوم فلا يسعنا إلاّ أن نستحضر أمامنا، وبأجلى الصور والمعاني، الشهداء الأمناء محمد سليم، وحبيب كيروز، وتوفيق الصفدي، وباقة من الرفقاء الذي استُشهدوا برصاص غدر الانتهازيين الوصوليين. واليوم، وبعد مضي ما يناهز الأربعين عاماً من كتابة ونشر هذه المقالة، ما زال أصحاب النزعات الفردية، وبالعقلية نفسها التي رشقت وسيم زين الدين ومحمد سليم وحبيب كيروز وتوفيق الصفدي، وإن تغيرت الأسماء والمظاهر، يعبثون بحزب سعاده ويعيثون في مؤسساته فساداً وانحرافا. وإن عجز هؤلاء من إطلاق الرصاص، يلجأون، كما قالها سعيد تقي الدين، إلى رشق الأوفياء والطيبين من القوميين بأبشع الأوصاف والشائعات.
تكريماً لفكره واستشرافه، تعيد الفينيق نشر مقالة الأمين الراحل هنري حاماتي، الذي تعرّض هو نفسه إلى محاولات اغتيال متكررة، إن في الوطن أو في الخارج، بسب مواقفه الفذّة التي فضحت المتآمرين على النهضة وكشفت نواياهم.
________
حين نفكر بالرجال الكبار تقفز إلى بصيرتنا ملامح وجوه يتعاكس فيها ضوء المعرفة والحب وظلال الغموض والعنف في خطوط حداد كثيف: غسان جديد، سعيد تقي الدين، فؤاد الشمالي، أحمد عبد الغفور، وسيم زين الدين…
هؤلاء، ومثلهم كثيرون، شهداء وعاملون، أغاروا على وجودنا ثم غاروا فيه، ليكمنوا في أعماقنا. فما تطالعنا ذكرى أحدهم حتى يطالعونا جميعاً، كأنهم جماعة مؤتمرة في حضور دائم، تتعاطف بعصبيتها، وتتفاهم بلغتها، وتتعامل بمنطقها، وتحوم فوق وجودنا ووجداننا وحياتنا.
لكل منهم يوم، وكل منهم في يومه يعرض لنا الآخرين وأيامهم.
الدكتور وسيم زين الدين!
الرفيق وسيم!
الشهيد أبو واجب!
ابنته الصغرى التي لم يدركها، ميسلون!
والده رجل وقور تتمثّل في مناقبه عراقة شعبنا الأصيلة!
شقيقه، كأي منّا، في المعترك!
شقيقته وصهره كذلك!
وُلد في قبّيع، من المتن الأعلى، وأنهى دروسه بتفوّق، ونال تقديراً خاصاً على أطروحته الدكتوراه في العلوم السياسية “الهلال الخصيب ومشكلات تصنيعه النفسية الاجتماعية”، التي ترجمناها لقرّاء “النهضة”، ونشرنا قسماً منها، وهي، حتى الآن، أفضل إنتاج علمي، اجتماعي سياسي، صدر في الحركة السورية القومية الاجتماعية إطلاقاً.
كان وسيم حاد الذكاء، عنيف الطبع، حاسم القرار، سريع البديهة، حازم الإرادة.
وكان، في الدرجة الأولى، أسلوبي التفكير، مبدئي في التحرك. وكان، في أبرز ما تتصف به شخصيته، مستقيم الرأي وواضح الاتجاه، سديد الخطوة.
الحقيقة ومن بعدها الطوفان!
لا، لم تقتله الكتائب، كما قيل يوم مصرعه.
كان هذا “القيل” تسرّعاً غبيّاً لا مبرر له. كان تسرّعاً أثلج صدر الزمرة الآثمة التي ظنّت أن “القيل” يحجب الإثم.
لقد قتله الذين كان وسيم قد قاد تحرّكاً داخلياً في الحزب لهدف إنقاذ الحزب من شرورهم وآثامهم.
قتله المتمركسون المشركون، لأنه أسهم بقوة في معركة العقيدة التي خاضها القوميون الاجتماعيون ضد التمركس والشرك.
قتله المتشنكلون بمنظمة التحرير الفلسطينية، لأنه أعلن، من موقع قيادة الحركة التصحيحية، أنه ضد التسوية الاستسلامية، تماماً كالشهيد الكبير أحمد عبد الغفور الذي قتله الإقطاع الفلسطيني اغتيالاً في الأشرفية.
وسيم زين الدين، قتله الإقطاعيون وأتباعهم، لأنه صفع قدسياتهم، وسفّه التبعية لهم.
هؤلاء قتلوه.
هم أرسلوا إليه من يقتله، بعد أن أشاعوا بين أتباعهم أنه خائن يستحق الموت، وخارج على النظام، ومتمرد، وعاص…
تآمروا عليه، وحزموا أمرهم، ونفّذوا!
المرة الأولى، أخفقوا، لأن وسيم طوّق الزمرة المهاجمة في مكاتب “البناء”، وجرح آمرها، فاستسلمت. وبِكِبَرِ اليقين القومي الاجتماعي أطلق رفقاءه المضلّلين، بعد تأنيب يستثير وجدان أهل الكهوف، وحمل رفيقه المهاجِم الجريح بين يديه إلى المستشفى، مُلِحّاً عليه في كتمان دناءة دافعيهم حفظاً لكرامة النهضة، والزعم أنه جُرِح برصاص طائش، وهكذا كان…
كأني بوسيم ارتعب خوفاً من ظهور كل هذه الحقارة للشعب!!
كأني بوسيم، في إشراقة وجدانه وتألق إيمانه، ظن أنه أخجل القادة الجبناء الصغار، وأشعرهم بعارهم، فلا بد من أن يطووا ما في نفوسهم من خِسّة، وأن يستتروا!
كأني به، ظنَّ أن في هؤلاء المنحرفين بقية من مناقب علقت بهم اكتساباً أو صدفة، فهم، بعد فشل محاولتهم المجرمة، متراجعون حكماً!
أو هو، في مضاربته على الحق، تجاوزهم أحجاماً وأدواراً ومثالب. فالتصدي يقتضي العنف البطولي المؤمن المنظم رداً على “البطولة” المضلَّلة المسخَّرة الحقيرة، أيّاً كانت النتائج.
وفي اليوم التالي، بعد أربع وعشرين ساعة فقط، أرسل الجبناء أحد مضلّليهم، يستتر بالليل، وليرشقه، وليصيب منه مقتلا.
مات وسيم زين الدين!
واستراحوا!
مات وسيم زين الدين!
وفرحوا، وتشفوا، وشمتوا!
ها نعشه يمر في ساحة بشامون، والناس على جانبي الطريق، وقوفاً، خشَّعاً، مهابة للموت الحق، واحتراماً للشهادة.. وأحدهم، أحد الجبناء، يدير ظهره للموكب، فلا يدري رفقاء وسيم، هل أدار الجبان ظهره شعوراً بالذل، أم تمادياً فيه؟!
مات وسيم زين الدين، أيها المتمردون العصاة، فخافوا واستكينوا، واخضعوا، وعودوا إلى الطاعة، واحنوا رؤوسكم واستسلموا.
مات وسيم زين الدين، فاعتبروا يا خوارج!
قتلوه بأيدي رفقائه المضلّلين!
قتلوه بأمر حزبي صريح!
قتلوه، وخطّطوا لقتل سواه، غيلة، مراراً، وهم يظنون أن الحزب أداة طيّعة، وأن الأعضاء مطايا سهلة، وأن جرائمهم خفايا، وأن أسرارهم خبايا، وأن دماء القوميين رهن إيماءة منهم، وهم، أشرسهم شجاعة، اعتادوا تقبيل أحذية الجلاّدين، ولعق دماء أصابعهم التي جرّحها السوط.
قتلوه، لأنه قال لا لانحرافهم عن العقيدة المقدّسة.
قتلوه، لأنه دعا رفقاءه إلى التشبث بمبادئ سعاده، كلمةً وروحاً.
قتلوه، لأنه قال لا لتخريبهم دستور حياتنا,
قتلوه، لأنه دعا رفقاءه إلى العودة إلى مؤسسات الحزب الدستورية الأصيلة التي وضعها المعلم.
قتلوه، لأنه قال لا لتشنكلهم بشناكل النفط، وماله، وسياسته.
قتلوه، لأنه دعا رفقاءه إلى النهج القومي الذي رسّخه سعاده العظيم، طريقاً للحرية والسيادة والحق.
قتلوا وسيم زين الدين، باسم العقيدة، عقيدتهم المطعّمة المزوَّرة المجدَّدة المطوَّرة المختلطة… الجامعة أوساخ الشارع، وتعابير النهضة في فكر تافه.
قتلوا وسيم زين الدين، باسم الدستور، دستورهم الذي صنعوه على شاكلتهم من اللملمات الشارعية، والأطماح الصغيرة.
قتلوا وسيم زين الدين باسم النظام، نظام فكرهم، ونظام نهجهم ونظام أشكالهم.
قتلوا وسيم زين الدين، لا ليقتلوه هو فقط، بل ليركّعوا النهضة كلها، بالإرهاب والعنف، وليتبعوا رجالها بهم أعداداً بشرية تحمل السلاح، وتقبض الأجر، وتصفّق للخيانة.
قتلوه، وهم مصممون على قتل سواه، عندما يتسنى لهم ذلك.
… ولقد حاولوا مع وسيم مرة، وعندما أخفقوا كرروا المحاولة، وحاولوا مع غير وسيم مرارا، وأخفقوا، وانفضح أمرهم للأعضاء الطيبين فتمردوا وثاروا، فأنكر الجبناء أن لهم ضلعا، كما أنكروا أن لهم يداً في قتل وسيم.
قتلوا وسيم الخارج عن الصف، الصارخ في رفقائه: “الأمر لي!” المضارب على تحرير القيادة من الصغار والصغارات، والمنحرفين والانحرافات.
– هذا الخارج على الطاعة، الرافع رأسه في وجه الأرباب، الشامخ فوق سدرة المنتهى… اقتلوه!
– هذا المتطلع بعينين مبصرتين، افقأوا عينيه!
– هذا المنتصب بكامل قدميه على قدمين غير مرتجفتين، ابقروا خاصرته!
– هذا الرافض، اقطعوا لسانه!
– هذا الكافر بعبقريتنا، اسكتوا دماغه!
– هذا الصارخ، شلّوا صوته!
هذه هي دولة الصغار إذا حكموا.
والصغار هم الصغار، فهذا هو وصفهم. إنهم عيلة واحدة في العالم كله، وفي كل جيل، قبيلة أقزام تكبر عليها الأخمام.
إنهم الانتهازيون الوصولين الذين يخافون المجابهة فيلجأون إلى الاغتيال، والتصفية المعنوية مقدمة للتصفية الجسدية، على أن يبقوا خلف الستار، لأن مصلحتهم التي تقضي إزاحة المتمردين العصاة هي نفسها تقتضي سلامة جهودهم. وأخطر الانتهازيين الوصوليين هم الذين يزايدون في التمرد على طلب الحق والحقيقة حتى يصلوا. فإذا وصلوا اكتشفوا فجأة فضيلة الطاعة، وزايدوا على أسلافهم بالصغارة.
نعم، مات وسيم، ولكنه ما زال مع جماعة الأرواح المتمردة يحوّم فوق وجودنا وحياتنا، في فضاء وجداننا القومي الاجتماعي. فهو اليوم مثال للمجابهة الصارمة التي لا تعرف أي شكل من أشكال الالتواء. وهو فكر نيّر ندرسه، ونغذّي به نفوسنا، علماً وقواعد. وهو سيف مسلّط على رقاب المنحرفين، يحمله جيل وسيم زين الدين، ليصفي به أجيالهم. وهو نفس كبيرة صادقة تنكشف أمام نموذجها النفوس الصغيرة الكاذبة، حتى تلك التي تظاهرت فترة بالتمرد لتركب موجة المتمردين.
هنري حاماتي
باريس، حزيران 1978.