لا، لم يتعلم اللبنانيون من تجارب الماضي المُرّة ولا زالوا يقاربون الأمور بنفس الشكل منذ مئة عام ويبدو أنهم سيستمرون في دفن رؤوسهم بالرمال كالنعامة ولن يطلِّقوا آفة التكاذب المشترك، ولأمد ليس بقصير.
أولاً: دولة لبنان لم تتأسس، لقد بنيت من دون أساس.
إن الأساس الثابت والمكين للدول المستقلة السيدة هو الإرادة العامة الواحدة تحقيقاً للمصلحة العامة الواحدة، فهل بُنيت دولة لبنان على هذا الأساس أم وُجِدت لأسباب أخرى وبإرادة أخرى تحقيقاً لمصلحة أخرى؟ هل كان لدى سكان جبل لبنان سنة 1920 شعورًا موحدًا بهوية وطنية مستقلة واحدة وبالتالي إرادة عامة واحدة مستقلة، أم لا؟
بعيدأ عن آرائنا وفلسفاتنا ونظراتنا الى التاريخ والسياسة، دعونا ننظر فقط الى ما توفر من معلومات وحقائق ومجريات للأحداث والظروف التي آلت إلى ولادة دولة لبنان الكبير في 3 آب سنة 1920 عندما أعلن الجنرال الفرنسي غورو: “إني أعلن دولة لبنان الكبير”.
خلال هذه العقود من الضعف الواضح الذي أصاب السلطة العثمانية أقيمت أشكال سياسية متعددة في جبل لبنان بضغط من الأوروبيين، وكلها كانت نوعاً من الوضع الخاص أو قل الحكم الذاتي للمسيحيين والدروز، ونظام المتصرفية هو مثل على ذلك. أما مع انهيار السلطة العثمانية كلياً بعد الحرب العالمية الأولى وانحسارها عن سورية كلها، وجبل لبنان ضمنها، فقد تطورت
ثانياً: تقطيع الحدود والضم والفصل والولادة القيصرية.
والحقيقة أن المعارضة اللبنانية لم تقتصر على معارضة الانفصال وإنشاء دولة منفصلة عن سورية، بل شملت أيضاً معارضة حدود الدولة الجديدة بعد تقريرها، أي معارضة ضم أو فصل هذه المدينة أو تلك وإلحاقها بدولة لبنان أو فصلها عنه. حتى أن الشيخ يوسف الجميِّل مثلاً كان يعارض بشدة إلحاق بيروت وطرابلس بدولة لبنان، وكان ينسق في هذا الموضوع مع روبير دوكاي أمين عام المفوضية القرنسية العليا في بيروت، وكان الجنرال الفرنسي غورو رئيس السلطة الانتدابية قد أرسله إلى باريس لمتابعة المداولات المتعلقة بهذا الموضوع مع الحكومة الفرنسية (د. أنطوان الحكيم أستاذ متخصص في تاريخ لبنان والشرق الأدنى- مجلة تحولات عدد أيلول 2019).
ويروى أيضاً أن الفرنسيين كانوا يلحظون ضم منطقة عكار كلها وما بعدها مما يصل إلى تل كلخ ووادي النصارى عند مرمريتا وصافيتا وغيرهما، لكن المطران عريضة عارض ذلك بشدة لأن ضم تلك المناطق يعني تكاثر طائفة الروم الأورثوذوكس ومنافستها عددياً للطائفة المارونية في الدولة العتيدة. وقد رأى المطران أن تكون الحدود عند النهر عند المنطقة التي سميت لاحقاً على اسمه: “العريضة”.
ولم تقتصر المعارضة اللبنانية للانفصال عن سورية على مرحلة 1920 بل تعدتها الى سنة 1936 حيث إنعقد ما سُمّي مؤتمر الساحل في 10 آذار في منزل الزعيم البيروتي سليم علي سلام، وفي هذا المؤتمر برز إتجاهان: أصرت الأكثرية على الوحدة السورية بينما رأت أقلية بقيادة كاظم الصلح أن الأولوية يجب أن تعطى لمسألة الدولة المستقلة من أجل وضع حد للانتداب على أن يُعَالج موضوع الوحدة السورية في مرحلة لاحقة (نفس المصدر).
ومثل كل القضايا التاريخية التي هي موضع تأويلات ومزج الوقائع التاريخية بالسياسة والآراء السياسية، فقد وُجِد من المؤرخين من اعتبروا أن الدولة اللبنانية قد نشأت فعلاً تعبيراً عن إرادة اللبنانيين الجامعة. فالدكتور عصام خليفة وهو استاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية اليوم، يقول:
إن مزج التاريخ بالآراء والرغبات السياسية يؤدي بالنهاية إلى تزوير التاريخ وحجب الحقائق عن الشعب. مثالاً على ذلك فإن أغلب اللبنانيين اليوم لا يعرفون أن حدود لبنان الكبير الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو شملت مزارع شبعا والقرى السبعة والتي تُقدر مساحتها بـ 96 ألف متر مربع، لكن بعض غُلات الانعزالية الانفصالية يتنكرون لهذه الأجزاء اللبنانية إذعاناً لإرادة الأميركيين ودولة العدو حتى لا ينخرطوا في المطالبة بتحريرها ودعم المقاومة.
ثالثاً: فصل الدين عن الدولة.
إن اللبنانيين اليوم، وقد كانوا دائماً، شعب حي سليل تاريخ حضاري وعمراني واغل في التاريخ أكثر بكثير من حدود القرن السادس عشر. لكن اللبنانيين مشكلتهم الرئيسة هي “فقدان الوجدان القومي” أي ضياع الهوية وضعف الإدراك والتنبه لوحدة الحياة والمصالح والمصير التي تربطهم وتجمعهم ليس فقط بين بعضهم البعض بل أيضاً مع بقية الشعب السوري على امتداد وطنهم السوري الطبيعي، وذلك بسبب تاريخ طويل من الاحتلال التركي العثماني التجهيلي الذي أضعفَ وعيهم لوحدة حياتهم ودمر وحدتهم الاجتماعية وقضى على ذاكرتهم التاريخية ونزع السلام الداخلي منهم وزرع فيهم بدلاً من ذلك ذاكرة الإضطهاد المتبادل والحروب الداخلية والخوف والتخويف والحذر من بعضهم البعض وعدم الثقة ببعضهم البعض. إن آفة الطائفية هي اللعنة التي حلت عليهم خاصةً إبان الاحتلال التجهيلي التركي العثماني ثم الانتداب الفرنسي.
إن بقاء اللبنانيين وكافة السوريين أسرى النعرات الطائفية وإعتبارات وشعارات “التعايش” والتوازن التي تستبطن إنقساماً وطنياً حادّاً وخبيثاً وتتنافى مع المبادئ الأولى لمعنى الدولة الواحدة للمجتمع الواحد في الوطن الواحد، معناه تآكلاً ذاتياً بطيئاً. بل إن بقاء اللبنانيين في هذا الأسر وهذا التعايش الحذِر، معناه البقاء في دوامة التدمير الذاتي وفي دوامة الأزمات البنيوية الخطيرة التي تدمِّر كل شيء على رؤوس الجميع.
إن الترياق قد أوجده من وضع مبادىء الإصلاح البنيوي الجذري الحقيقي وهي:
إن الشعب في لبنان هو شعب حي لا خوف عليه ومنه في دولة مدنية تساوي الجميع في حقوقها المدنية والسياسية. إن اللبنانيين قد تقبلوا وانخرطوا في كنف الدول المدنية في مناطق هجرتهم وانتشارهم حيث فصل كامل للدين عن الدولة، فلماذا الخوف من عدم تقبلهم وانخراطهم في دولة مدنية في لبنان؟!!
إن اقتتالنا في الأرض على السماء قد أفقدنا الأرض والسماء معاً. إن اللبنانيين يستحقون دولة مدنية في بلادهم، ليس في لبنان وحده بل في سورية كلها، وفيها سينهضون ويبرهنون دون شك عن جدارة في العلم والفن والإبداع والبناء والعمران كما في المقاومة والحرب والانتصار.
إن اللبنانيين لا يحتفلون اليوم بذكرى “إعلان دولة لبنان الكبير” التي بنيت على زغل وعلى مشاكل موقوتة تتفجر تباعاً منذ إعلانها سنة 1920، فالاحتفال يكون احتفالاً بذكرى سعيدة وليس بذكرى ملتبسة حَمّالة أزمات وحروب وتفجرات داخلية أليمة. إن اللبنانيين اليوم يتذكرون ولا يحتفلون. وحين يأتي أوان احتفالهم بتأسيس دولة مدنية لهم جميعهم دون امتيازات لفئة على أخرى سيبقون يعانون، ولا بد أن يولد من المعاناة شيئاً جديداً فيه كل الحق والخير والجمال.