ليس للأزمة منزلاً بل منازل بلا مَنزلة – قيس جرجس

قيس جرجس

Share

مَنزلة المنازل:

المنزل – الإيجار

المنزل – القصر

المنزل – المعبد

ليس من قبيل جلد الذات، ولا من قبيل التصيّد، ولا من قبيل كشف حساب، بل من قبيل التعرّي الفاضح، إن لم نتعرّ لن نبرأ.

كان الحزب وما يزال بنية استبدادية بكل تعرٍّ فاضح، كل تراكم الدراسات والتعديلات الدستورية في نظامه الثقافي والإداري كانت تخدم ذلك، وهذا سبّب شلل حيوية الوجدان والعقل فكريا وسياسيا، وهذا ما أنتج كل تلك المنازل.

المنزل – الإيجار:

تأسس على فهم مغلوط للعقد والتعاقد:

لقد أسس سعاده قضية قومية اجتماعية على أسس فلسفية وفكرية تعنى بمصالح حياة أمة ومسار إنساني عالمي، وبنى بيتا للقضية، يسكنه العاملون على انتصار قضيتهم في البيت الكبير –الأمة- بموجب عقد وتعاقد بينه وبينهم، وذلك لموجبات وحيثيات التأسيس ونشوئه وحمايته وتنظيم العمل لذلك، ليكون ملكا لهم على ذلك الأساس بعد غيابه، الطرف الثاني في العقد هو الوارث الشرعي المالك له، هم الحامل للقضية، وأساس القضية هو حياة وارتقاء الشعب السوري في كل كياناته.

ورغم ما قيل عن سلطة الزعيم وصلاحياتها، فإننا نجد في التاريخ البشري قلة قليلة في العالم يتميزون بفرادةٍ شخصية تبوأهم فرادة في الدور والقيمة، ويبدون في نظر شعوبهم منقذين، قلة قليلة لهم سلطة ولهم سلطان المعرفة والإبداع، قلة قليلة يملكون بطولة العقل وبطولة الوجدان، وهذا استثناء وليس قاعدة.

هذا لا يعني لن يأتي مثله، الطبيعة ليست عقيمة، والتفرّد نادر بطبيعته، والعبقرية والبطولة فقط ليستا بحاجة لشرعية ديمقراطية.

لا سلطة ممارسة للزعيم بعد غيابه، والتقوّل بذلك ضرب من الخرافة العقلية، لقد بقي سلطانه الوجداني والمعرفي في قضيته الموصوفة ونظرته وفلسفته وفكره، وبقي القوميون المتعاقدون على هذه القضية، وفي هذا السياق بقيت الحياة مستمرة والأمة والمجتمع والعالم والتطور يحكم هذا الاستمرار والمسار.

فالحزب ملك من آمن واقتنع بقضيته، والصف الحزبي هو مصدر كل السلطات التي تقوده وفق نظام ديمقراطي انتخابي بآلية المصافي، وهذا واضح في مرسوم محدد من قبل الزعيم في حال غيابه المؤقت فكيف الدائم.

إن القفز فوق ذلك كلّف الحزب كثيراً جداً، وحوّله إلى بنيةٍ استبدادية قامعة للعقل الفكري والسياسي بعد سعادة، وشلّ حيوية الصف الحزبي بكل مؤسساته.

وقد تم ذلك تحت مبررات مغلوطة الفهم لمعنى الديمقراطية التعبيرية، التي لا تنفي الديمقراطية في الأصل ولا تستغني عن مجالسها وأدواتها الانتخابية التمثيلية، وإلا لماذا سُميت ديمقراطية – تعبيرية، بل هي تأسيس جديد يحرّر قيادة النوع من استبدادية العدد، ويخلق بيئة آمنة لتفاعل سلطة الرأي والتعبير والإبداع مع سلطة القرار، وهي محاولة رائدة لتشريع مؤسسات للرأي والحوار والرقابة والدراسات والندوات بالتوازي مع المؤسسات التنفيذية والتمثيلية التشريعية لتحسين أدائها، هي نظام تفاعل خلاق بين مؤسسات التعبير والرأي والدراسات والرقابة مع مؤسسات القرار والتمثيل والتعيين.

حزب يصنّع قاعدته الانتخابية لا يمت بصلة لأية ديمقراطية، فعادة يشوب أداء الديمقراطية التمثيلية تزوير الانتخاب بوسائل عدة، أما أن تصنّع قيادة الحزب العليا المتمثلة بالمجلس الأعلى ولجنته المانحة للأمانة من ينتخبها تحت قاعدة المنح المشروط “التشريف من أجل التكليف”، فهذا ضرب من ضروب الاستبداد ونظرة دونية للصف الحزبي والحكم عليه بالقصور وعدم قدرته على التطور والتدرّج بالنضال والمعرفة والخبرة، فكيف يناضلون لقضية لا يختارون قيادتهم لها، هذا كان سائدا في فرنسا قبل الثورة من أن النبلاء فقط ينتخبون.

هذا المنزل الذي لا يملكوه تنظيرا فكريا ولا إداريا ساده نتيجة لذلك نظام أبوي بطريركي ثقافي سياسي وإداري شَلّ حيوية نظام الفكر والنهج والأشكال التي تحققه، على المستوى الثقافي أضحى منظمة عقائدية متحجرة، وعلى المستوى السياسي تحوّل الحزب بالتدريج إلى حزب سياسي اعتيادي، بدل أن يكون منظمة عقائدية تفعل حربا وإدارة وثقافة.

على المستوى الثقافي:

المنزل – المعبد:

لقد نمت عقلية التغريب والتجريد والتمجيد والتأليه وممارسة الطقوس كثقافة طبعت بطابعها معظم المنتمين والعاملين في الحزب، وعقلية الناطور والحراسة لسعاده ونصوصه، فالمنزل صار معبداً لممارسة طقوس المؤمنين وفي صدارة المعبد هيكل القيادة صار محراباً لتجّاره.

إن تحويل سعاده إلى صنم، كان له أسبابه الذاتية في قصور الفهم الفكري لمن خلفه والتعويض عن ذلك بالنزوع نحو تحريم النقد والسؤال.

فكيف يتحوّل المنزل إلى عمارة فلسفية فكرية سياسية، ولا يتحوّل صاحبه إلى محمول معرفي، ولكي يتحول إلى ذلك، يجب أن يكون محمولا نقديا بالدرجة الأولى مستباحا للعقل شرعاً أعلى من النص، فالنصوص القوية معرفياً هي التي تدافع عن نفسها والنصوص العاجزة معرفياً أمام نشاط العقل هي التي تستجدي الحراسة وتحريم نقدها، فالنص المعرفي إما أن يتم تجاوزه أو يتم تبنيه أو يتم نفيه بنص إبداعي آخر، فالإكراه التنظيري المجوقل بالشحن العاطفي يضعف النص يجعله عقيما يفقده خصوبته عكس النقد المفتوح.

فتحت مقصلة تهمة الانحراف واستنفار الأتباع المتعبدين لذلك تم اغتيال كل من حاول أن يكتب قراءة جديدة حتى لو كانت ذات قيمة.

ناهيك حتى الآن عن عدم وجود محاولة لتصنيف النصوص المعرفية عن الحزبية الآنية، فهناك نصوص لم تعد تحاكي قضايا اليوم.

أين هي الندوات المفتوحة للجميع، أين هي الدوريات المفتوحة للجميع، أين هي دراسات المقارنة والمتابعة مع تطور الفكر والفلسفات بالعالم، البعض لا يقبل حتى المقارنة يتهم ذلك بالتطعيم والتهجين بدل أن يقدم دراسة أو مقارنة معرفية بديلة.

على المستوى السياسي:

المنزل -القصر:

الناطور والخلد السياسي: الناطور الحزبي على السطح والحدود والخلد في الحقل.

في فضاء ثقافة التجريد والتعبّد نما وترعرع عقل قومي سياسي طوباوي انتهى ليكون خلداً سياسياً في حقل الحزب، واليوم ترون كيف يختبئ خلف قبعات وأقنعة حزبية ترابية الشكل بعد أن قرض جذور الأفكار والتضحيات.

لقد تأسس هذا العقل على فهم مغلوط لما تعني القومية عند سعاده، كمعطى تاريخي من جهة، وكنهج سياسي من جهة أخرى.

  • كمعطى تاريخي: أي ماذا تعني كظاهرة اجتماعية تاريخية؟

لقد ربط سعاده بين بروز الظاهرة القومية في العالم والتطور الاقتصادي بالثورة الصناعية وتطور الوعي بظهور الطباعة وبروز شخصية الفرد وشخصية المجتمع المتجسدة بظهور الإرادة الشعبية وقيام الدولة الديمقراطية خلافاً لكل النظرات الأخرى.

فالمبدأ القومي يرتبط بالمبدأ الديمقراطي برابط مفهوم السيادة للشعب والمعرّف عنده في وضع سيادة الشعب على أرضه ونفسه.

ونتيجة لذلك العمل القومي الثقافي والسياسي يقتضي العمل على تعزيز الوعي المحرر والموّحد للإرادة الشعبية والمواجه لكل معطلاته من أنظمة ثقافية وسياسية استبدادية طائفية دينية طبقية عائلية، كما يقتضي العمل على الدفع بعملية الحداثة الاقتصادية والاجتماعية بكل تنويعاتها على مستوى الدولة والمجتمع.

لقد تحوّل مفهوم القومية عند البعض إلى نصٍ متعالٍ طوباوي يقتصر على تمجيد الماضي والتغنّي بالأمجاد بعيداً عن محاكاة قضايا الناس والشعب ومعاناته وإلى شعار دعوة للوحدة السياسية فارغا من مضمونه الحداثوي الاجتماعي الإنساني فتم تظهير سعاده على أنه داعية لخريطة سياسية أو شعاراً تقليدياً لتحرير الأرض.

  • كنهج سياسي:

نتيجة لذلك الفهم القاصر نشأ نهج سياسي في الحزب متأرجح ومتقلّب مستعجل مرتجل ضبابي في مواقفه تجاه الأنظمة السياسية الحاكمة وغالبا ما هادن تلك الأنظمة منذ غياب سعاده وحتى الآن تحت ذريعة التحرير تارة وتارة تحت ذريعة الانتظار لحين تحقيق وحدة الأمة لطرح مشروعه ومفهومه للدولة القومية الاجتماعية.

فهناك غياب شبه كامل لدراسات حول طبيعة الأنظمة التي نشأت في كيانات الهلال الخصيب وجدواها ومشاريعها ونتائجها الكارثية وتحديد المواقف منها إلا ما كتبه سعاده عن توصيف المارونية السياسية في لبنان.

وغياب شبه كامل لخطط سياسية وبرامج مرحلية للنضال في كل كيان وتحديد الجبهات المفتوحة.

كثير من الأدبيات والكتب والدراسات تتكلم عن الغاية فقط والتغنّي بمعانيها دون أن نجترح السبيل لها والطرق العملية لبلوغها.

غياب شبه كامل لتصوّر مبدأي عام للإجابة على سؤال ما هو الطريق العملي السياسي لبلوغ أغراضنا القومية؟

وتصوير أن الحزب يعمل للعلمانية بدون الديمقراطية واضطهاد هذه اللفظة في أغلب أدبياتنا الحزبية تحت ذريعة أننا نريد ديمقراطية تعبيرية لكن كيف؟؟ لا يوجد جواب عملي موصوف بقوانين وآليات وبرامج.

كيف نبعث بنهضة ولا نعمل لها في تثوير وتحرير الإرادة الشعبية في كل كيان بمواجهة النظام الذي يعطّل ذلك؟

كيف نعمل للمبدأ القومي في وضع سيادة الشعب على أرضه ونفسه ولا نعمل للمبدأ الديمقراطي الذي هو نفسه عند سعاده ولا ندافع عن حياة الشعب وحقوقه المدنية والسياسية ضد الأنظمة السالبة حقوقه؟

كيف نبلغ تحرير أراضينا ومواجهة العقبات الخارجية ولا نعمل للقوة التي هي القول الفصل في إحقاق الحق القومي أو إنكاره؟

كيف نذهب إلى المواجهة الخارجية ونحن رعايا مسلوبة الحقوق وقطعان طائفية دينية وطبقات محرومة؟

كيف ننكر على الدول العربية التصرف بحقوقنا القومية ونبارك ونعمل تحت قيادة دولة إقليمية دينية لمحور الممانعة والمقاومة؟

كان حري على حزب له عشرات الأمثلة والنصوص والمبادئ من تراث مؤسسه في نقض ونقد كل تلك الترّهات والخزعبلات السياسية للخلد السياسي في الحزب وفي الأمة أن يتلمّس الطريق العملي الصحيح.

واضح جدا أن سعاده قتل في خضم مواجهة الأنظمة الفاسدة في معركة التغيير والدفاع عن مصالح الشعب وتحرير إرادته.

واضح جدا أن الطريق العملي السياسي لبلوغ أغراضنا القومية يكون من خلال تبنّي العمل لإقامة مبدأين في كل دولة: مبدأ فصل الدين عن الدولة والمبدأ الديمقراطي القومي في وضع سيادة الشعب على نفسه وأرضه.

هذا هو الطريق العملي السياسي الذي نشقه بتثوير وتحرير وتوحيد الإرادة الشعبية التي هي الحامل الاجتماعي الإنساني لتحقيق سيادتها ومصلحتها الاجتماعية الإنسانية في الدولة الديمقراطية العلمانية التي هي المعبر التاريخي لتحقيق وحدة الدورة الاجتماعية الاقتصادية.

ولا نظل نقبع في أقفاص الاتكالية السياسية على الأنظمة الفاسدة ونقبع في أقبية الانتظار الذرائعية الطوباوية، أو نمتطي الانقلابات العسكرية كسلوك سياسي شائع لتسلم السلطة واستخدامها لتحقيق ما نريد.

هذا كله أدى لخروج الحزب من الصراع ولم يرتق ليكون حركة شعبية عامة تقود ساحات المواجهة في كل الكيانات.

حين أصبح وجه الحزب لا يشبه وجه الناس حدث الطلاق من نخبته ومن شعبه، وبدأت هجرات النزوح منه.

الحزب اليوم خارج منزله الأساسي إنه في العراء الفكري والسياسي والأخلاقي.

حزب المعرفة قوة والحرية شرط الانتصار منازل خاوية ليس لها مَنزلة من أسسه بالإبداع والبطولة.

0
0

0 Comment

James Harb 5 فبراير، 2021 - 3:06 م

في لبنان نظام ديمقراطي والنتيجة ؟

ايلي عون 6 فبراير، 2021 - 4:47 م

أكتفي الآن بالتعليق النحوي: ليس للأزمة منزل لا منزلا.

Post Comment