كيف أقص ذكرى عمرها ثلاث سنوات، وأنا بعدها لم أعد نفسي التي عرفتها ! اتصل مخفر منطقتي بالمنزل بداية عام 2015، ليبلغني بوصول برقية التحاقي بخدمتي الاحتياطية. كنت أتوقع هذا الاتصال منذ أشهر. يومها كانت الدولة ما تزال ترسل برقيات التبليغ إلى بلديات ومخافر المناطق، تصرّفٌ غاب بعد عدة سنوات مؤسفة من عدم التحاق نسبة كبيرة من المطلوبين. توجهت إلى المخفر، ووقّعت على ورقة التبليغ. أجريت اتصالات وداع مع أصدقاء يعلمون أن قرار الالتحاق كان محسوما في وجداني. الحماقة الوحيدة التي ارتكبتها عند نقلي الخبر لوالدتي، وسعيا خلف مباركة موجعة، أني خيرتها بين التحاقي او العمل في لبنان؟ وقد كانت العروض قد سبقت التبليغ بأشهر، وفرص العمل موجودة، وكنت أرفض. أذكر نظرتها المتألمة، ودمعة عينيها المحبوسة “أريد الذي تريد، ولست أفضل من كل أم سورية ذهب ابنها إلى جبهات القتال” .. لم نتحدث عن كونه عاد مصاباً أو شهيداً أو مفقوداً. الحماقة ذاتها كانت عين الحكمة، وأنا أنقل الخبر لحبيبتي مرفقاً بقرار الالتحاق. إنها شريكتي ورفيقتي بقية الطريق، وأنا أعلم بداخلي أنني أزلزل بداخلها كل ذرة توحد الأم والحبيبة والرفيقة.
باختصار، معضلتي أمي! لا أقدر على تخيل نفسي غائباً عن أمي لشهور طويلة، ثم أعود في إجازةٍ لمدة قصيرة، خمسة أو ستة أيام. إذا كان يفيد الشرح، فأبي مسافر منذ سنوات وكذلك أخي الأصغر سناً. وبقيت أنا وأخي الأوسط الموظف “منذ أشهر قريبة التحق بطلب احتياطه” إلى جانب أمي. كيف أتحمل فراق أمي هذا الزمن الطويل وهي التي تحتاج لكل مساعدة ممكنة في شؤون الحياة داخل المنزل وخارجه؟ ولأن الحل يكمن في المشكلة، اتصل أحد أصدقاء الجامعة وتحدث عن إمكانية الالتحاق بأحد التشكيلات الرديفة للجيش السوري، المعادلة بسيطة كل 20 يوم عمل، 10 أيام إجازة. المقابل؟ لن أتمتع بامتياز الخدمة على الحواجز فلا حواجز عندهم، والاستعداد للخدمة القتالية في أي موقع في الجمهورية السورية يطلب مني العمل فيه. والتشكيل بالمقابل سيرفع اسمي، مثل العديد من الشباب إلى الدولة السورية والتي بدورها ستعترف بنا مقاتلين منتدبين لصالح الخدمة لديه، وبالتالي حقوقنا العسكرية محفوظة، بالإضافة الى حقوق أدبية من التشكيل. ببساطة، خطر أعظم يساوي إجازة معقولة بقرب أمي وحبيبتي. موافق جداً، وهذا ما كان. مر وقت قليل قبل أن أفهم أن الدولة السورية بسماحها لهذا المنطق بالعمل، كانت تحل مشكلة كبيرة لكثير من الناس، يمنع النظام العسكري الثابت – وهو بحاجة إلى مراجعة منصفة من قبل الدولة – بجعل الإجازة من العسكرية قضية روتينية وحق ثابت للمقاتل وروحه المعنوية. هل أنا نادم على قرار الالتحاق بخدمتي؟ وقتها ستسمع مني كلمة “لا” شاردة، تلك ال “لا” تعلّمَت الصبر على الشدة. لن أكون أنا نفسي الذي هو أنا، لو اتخذت قراراً مغايراً وقتها. وهل أشعر بالندم اليوم؟ أقولها “لا” بقوة. لي شرف القتال دفاعاً عن معركة استقلال جديد، واعلموا أنكم تتحدثون إلى جندي سوري كانت إحدى مهامه اقتحام دوار كورنيش بردى في منطقة الزبداني، والعثور على علب ذخيرة اسرائيلية الصنع موجودة لدي كأحد تذكارات القتال. لو لم ألتحق بالجيش لكانت المرة الأولى التي أناقض فيها معتقدي وشرفي ومعرفتي، وأتحول إلى كل ما أمقت في الحياة من أصحاب الوجوه المتناقضة. ولكنت جسداً حياً بروحية مقهورة وحزينة.
والموت! ذلك المفهوم الذي يشبه عبثية الحياة تماماً. كان سيدي، وتعلمت في الحرب كيف أجعله عبداً لي. ولهذه العبودية قصص متعبة ومؤلمة وستروى في حينها، حسبي أن السيادة على الخوف من الموت لا تتأتى عفواً ولا كرامة أو براحة البال والدعة. تذكروا أن الذي هرب من خدمته العسكرية خارج الوطن، وضع حياته على محك الموت والخطر بين يدي عصابات التهريب أو تجار الأعضاء أو الغرق في البحر أو الضياع والموت في الغابات… كان الخوف من الموت عليه سيداً وملكاً عظيم القدرة.. قدرة لا أريدها وأخافها.
لنضع مفهوم الوطن جانباً، فالظاهر القبيح من الأزمة، أننا نبحث عن سقفه ولا نعرفه. لقد استطاع الخروج ووصل سالماً! ماذا عن أمه وأخوته وحبيبته وأصدقائه وأهل حيه؟ ألا يجثم عبث الموت عليهم؟ للموت قصص قاتمة ومنها صورة أم سورية عجوز تغضن كل المقدس فيها ليتعتق الوجود في دمعة لا تنزل، تحمل ورقة مكتوب فيها أسماء ستة أبناء، يسبق اسم كل منهم كلمة شهيد، لو تقاسمت الأسرة السورية الموت، لبقي لتلك الأم من ابنائها سندا لبقية عمرها، ولكان الدمار أقل والموت أقل لأن الخوف من الموت سيتحول إلى عبد.
لم نقدر أن نكون شركاء في الموت! تلك أشد هزائمنا الدالة على تعفن أمراضنا الاجتماعية الموروثة، وتلك أعظم تجليات المادة والنفس السورية عنفوانا وجبروتا. وقتها عندما شاهدت تلك المرأة العجوز، عرفت أنها أمي التي هبطت من رحمها فكانت، وكل صبية في بلادي، ورحمهن سقف وطني. والآن أعرفها زوجتي التي ولدت للمرة الثانية في حبها، وفي رحمها ابنتي التي سأولد ثالثةً من رحمها، وأقهر الموت ثلاث مرات.
كلمةٌ تقهرني لمن فهم الحرب قتالاً بين أخوة، ودماً لا يريد الشراكة فيه. وقال وكتب وعمّر فلسفةً عن نزاهةٍ وجدانيةٍ لا أعرفها.. وسافر… لن أناقش ظروفه أو مبرراته. كيف يرضى أن ينأى بنفسه من قتال الدم “بين الأخوة” وقد سافر إلى بلادٍ تموّل “حرب الأخوة” مالاً وسلاحاً ورجالاً وسياسةً؟ ليته قال أخاف الموت وأخاف القتل، ليته صمت. أنت رحم عقيم، وخرجت من رحم عقيم، ولدت ميتاً وستولد ميتاً، ولا رحم يصلك الى الحياة.
بالنسبة لي، وحتى اليوم وغداً، ليس الفضاء رحباً.. إلا أنا، ولم يكن ثمة مجال للاختيار.. إلا أنا. أحيا كل لحظة غبطة المغامر!