لم يدخل في سانتياغو ولم يخرج من بيروت

شحادي الغاوي

Share

للأمين نزار سلّوم مقالة هامة جداً نشرها في الأول من آذار في كل من موقع سيرجيل ومؤسسة سعاده للثقافة (وتنشرها الفينيق مع هذا العدد أيضا). وأهميتها، بالنسبة لي، تكمن خاصةً في إثارتها موضوعاً من أكثر مواضيع الفلسفة القومية الاجتماعية خلافية وتبايناً في فهمه.

لقد اعتمد “المنهج النسبي”، كما سمّاه، بديلاً “لقرأنة” سعاده. والقرأنة هي تعبير جديد لسلّوم نوافقه عليه معناه “اقتطاع النص السعادي من التاريخ ومحو مؤشرات وجوده النسبي المتحرِّك وتطويبه كمطلق ساكن تكمن الأسرار فيه ويستحوذ على مختلف الحلول للمشكلات الراهنة المرئية والمستقبلية المتوقعة”. ويرى سلّوم “أن المطلق بطبيعة معناه هو كلّي جامع المتوافقات مع المتناقضات، ولهذا يُرى بوجوه متعددة، وفقهياً يُرى بوجوه لا نهائية ليوصَف بأنه حمّال أوجه”.

ويعتقد سلّوم أن “المنهج النسبي” يمكن أن يوصله لى الوضوح ويخرجه من “المتاهة” التي يؤدي إليها “التحديق المستمر بمصدر السلطة”، والتي يتعذر الخروج منها “دون كسر حاجز الخوف من اختيار طريق الخروج والثقة فيه وعدم اعتباره حلّاً مطلقاً عابراً للمشكلات…”.

ويعتقد سلّوم أن سعاده قدم ديمقراطيته التعبيرية في سانتياغو الارجنتين سنة 1940 (وليس قبل)، ثم أبدى سعاده نفسه قناعته بانتصار الديمقراطية العصرية، أي التمثيلية، في محاضرته السابعة في بيروت سنة 1948. ويقول أن “ما بين التعبيرية في سانتياغو والتمثيلية في بيروت شيدنا تلك المتاهة التي نخاف أن ننهيها في سانتياغو لنختار ماذا نفعل في بيروت، أو ننهيها في بيروت لنحكم على سانتياغو بالإعدام”.

أريد هنا أن أناقش الأمين سلّوم وأخالفه في قراءته واستنتاجاته، كما يلي:

 

1 –  محاضرة مدروسة وليس خطاباً إرتجالياً.

تحت عنوان الدخول من سانتياغو يقول سلّوم أن فكرة الديمقراطية التعبيرية وردت هناك “في مقطع أو مقاطع من تقرير صحفي بدأ بوصف زيارة سعاده ومتى وصل وأين تمت استضافته” صدر عل مرحلتين في العددين 67 و68 من جريدة سورية الجديدة. وبعد أن يورد سلّوم النصوص المتعلقة بالديمقراطية التعبيرية من ذلك التقرير الصحفي، يبدأ بمعالجة النصوص ويطرح عدة تساؤلات يستنتج بنتيجتها أنه “لم نقرأ نصّاً خاصّاً بالديمقراطية ومكرساً لبحثها. فضلاً عن كونه خطاباً ارتجاليا لسعاده أمام الذين استقبلوه وجاؤوا للتسليم عليه” وبعد أن يقول أن خطاب سعاده كان موجهاً للعموم وليس فيه ما يشير الى مشكلة مصدر السلطة في الحزب ولا الى الديمقراطية وتطبيقاتها في الحزب ولا يقارب أية مشكلة تخص نظام الحزب أو دستوره، يخلص الى القول: “يطرح سعادة الفكرة الرئيسية للاكتشاف السوري، ويدعو إلى استكمال إنجازه. لأنَّ ما قاله في الخطاب وجاء معروضاً في تقرير صحفي لا يشكّل بذاته أطروحة فكرية فلسفيّة متكاملة، ولذلك أخذ منهجيّاً مكانته كعنوان رئيسي، بلغةٍ تبشّر به، ولكن تحثّ (المفكّر السوري) على إنجازه”.

ويخلص أيضاً الى القول: “دستور الحزب مع المراسيم الدستورية، لا يضع أية آليّة تحت مسمّى الديمقراطيّة التعبيرية، ورغم مضي تسع سنوات ما بين إطلاق سعادة لهذا المصطلح (1940)، واستشهاده (1949)، لا نجد أي مرسوم دستوري، أو أية إضافات مميزة لما قدّمه سعادة في خطاب سانتياغو؟

هذا ما يقوله نزار سلوم، فهل صحيح ما يقوله؟ هل صحيح أن ما أعلنه سعاده في سانتياغو كان خطاباً إرتجالياً أمام الذين استقبلوه وجاؤوا للتسليم عليه؟ وهل الارتجال يقلل من قيمة الموضوع وأهميته؟ أولم تكن محاضرات الزعيم العشر إرتجالية؟ وهل إرتجاليتها قللت من قيمتها وأهميتها في شرح العقيدة ومبادئها الاساسية والاصلاحية وغاية الحزب؟

أن سعاده قد روى بنفسه قصة إعلانه في سانتياغو لما سمّاه ” نظرية من أروع النظريات الاجتماعية السياسية”، وما رواه سعاده يثبت أن ما أعلنه لم يكن مجرد خطاب جماهيري يتحمّس خلاله الخطيب أمام جمهوره فيستطرد ويبالغ ويقول ما لم يتحضّر له وما لم يدرسه بل ما يدغدغ به عواطفهم. لقد شرح سعاده ظروف خطابه سنة 1945، أي بعد خمس سنوات من إلقائه، وذلك في مقالة “نسر الزعامة ووحول توكومان- 2، قال:

“في سنة 1940 زار الزعيم مدينة سانتياغو لدعوة المواطنين الى النهضة القومية، وصحبه في هذه الرحلة جبران مسوح. فالقى الزعيم محاضرة اشتملت على نظرية من أروع النظريات الاجتماعية السياسية ويصح أن تسمّى هذه النظرية نظرية الديموقراطية التعبيرية، خلافاً للديموقراطية التمثيلية الشائعة في العالم. وكلف جبران مسوح تدوين ما سيقوله وتلخيص المحاضرة لترسل الى جريدة سورية الجديدة، ففعل هذا كما أشار الزعيم. ولما عرض تلخيصه عليه وجد الزعيم أنه أغفل بالكلية شأن النظرية الخطيرة التي أعلنها والتي هي أهم ما في المحاضرة لأنه لم يفقه لها معنى ولم يعرف لهل قيمة. فاضطر الزعيم الى تعديل التلخيص واكماله بنفسه…”.

هذا هو تاريخ ما أعلنه سعاده في سانتياغو وهذه هي ظروفه التي يجب أن نفهمه على اساسها، وهكذا يكون نزار سلّوم هو الذي “قرأن” سعاده واقتطع نصّه من التاريخ. فلم نكن إذاً بصدد خطاب ارتجالي أمام الذين استقبلوه وجاؤوا للتسليم عليه، كما قال سلوم، بل كانت محاضرة اشتملت على نظرية من أروع النظريات السياسية الاجتماعية، وقد كتبها سعاده بنفسه بعد القائها، وما يكتبه الانسان ليس كما يرتجله ارتجالاً، رغم أن الارتجال ليس نقصاً ولا يقتضي عدم تصديقه أو عدم إعطائه الأهمية التي يستحق. والذين جاؤوا فإنما جاؤوا للاستماع الى محاضرة مهيأ لها سلفاُ من قِبل من جاء لدعوتهم الى النهضة القومية، ولم يجيئوا لمجرد استقباله والسلام عليه!

أمّا قول سلّوم “أنَّ ما قاله سعاده في الخطاب وجاء معروضاً في تقرير صحفي لا يشكّل بذاته أطروحة فكرية فلسفيّة متكاملة، ولذلك أخذ منهجيّاً مكانته كعنوان رئيسي، بلغةٍ تبشّر به، ولكن تحثّ (المفكّر السوري) على إنجازه”، فيتعارض مع ما أعلنه سعاده في محاضرته (وليس خطابه) من أن الديمقراطية الجديدة هي دستورنا الذي نعمل به، فكيف نعمل به وهو لم ينجز بعد؟! قال:

“هذه الفكرة الجديدة، أي «التعبير عن إرادة الشعب»، هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد. وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة“. وفيه أيضاً ظلم كبير لسعاده ويوحي بأن سعاده لم يقدم شيئاً واضحاً وكاملاً وإنما دعانا نحن لإكماله عنه وإنجازه. لكننا نحن نعرف أن سعاده كان يحرّضنا دائماً وفي كل أمر وليس فقط في موضوع الديمقراطية التعبيرية. لقد حرّضنا في بحثه الاسلام في رسالتيه لتقديم المزيد من الحجج والمعلومات التي تؤيد ما ذهب اليه، وقد حرّضنا في محاضراته العشر مرتين، مرة في شرحه لمبدأ تنظيم الاقتصاد القومي على اساس الانتاج عندما قال: “أن ما أُعطي الآن هو قواعد عامة ومعلومات أساسية لا غنى عنها للتقدم بعد الى النظر في أمور اختصاصية”. وأيضاً حرّضنا في المحاضرة الثالثة في شرحه للمبدأ الاساسي الثاني عندما قال: “ما قلته حتى الأن وما يمكن أن اقوله في الاجتماعات المقبلة لا يغني عن درس تحليلي عميق هادئ يوضع كتابة ليستعرض التسلسل التاريخي والمنطقي للامور، ويوضح بصورة أكمل ما تعني هذه التعاليم وما ينكشف عنها للأمة واتجاهها الجديد الآخذ في تغيير حالتها الداخلية ووضعها الانترنسيوني”. وتحريضه لنا خلال شرحه لمبادئه لا يعني أن ما أعطاه سعاده من مباديء أساسية وإصلاحية “لا يشكل اطروحة فكرية فلسفية متكاملة”، أو أن سعاده لم يكن واضحاً وكافياً وأنه هو قد أعطى العنوان الرئيسي بلغة تبشر به ولكن تحثّنا نحن على انجازه!

2 –  لم يدخل في سانتياغو

يقول سلّوم أن “دستور الحزب مع المراسيم الدستورية، لا يضع أية آليّة تحت مسمّى الديمقراطيّة التعبيرية، ورغم مضي تسع سنوات ما بين إطلاق سعادة لهذا المصطلح (1940)، واستشهاده (1949)، لا نجد أي مرسوم دستوري، أو أية إضافات مميزة لما قدّمه سعادة في خطاب سانتياغو”. فهل هذا صحيح؟

أحد الرفقاء كتب مرّة أن الديمقراطية فكرة تتنافى مع عقيدتنا لأنها قديمة بينما عقيدتنا ونظرتنا الى الحياة فهي جديدة، ودليله الإضافي كان أن كلمة الديمقراطية ليست واردة ولا مرة لا في المبادئ ولا في دستور الحزب.

والأمين سلّوم يفتش اليوم عن مسمّى الديمقراطية التعبيرية في دستور الحزب فلا يجد، ويقول إننا لا نجد أي مرسوم دستوري أو أية إضافات مميزة لما قدمه سعاده في سانتياغو.

دعك من الرفيق الذي نفى الديمقراطية برمتها من الحزب، ودعنا نرى إذا كانت فكرة “التعبير عن الإرادة العامة” موجودة في دستورنا أم لا.

أن سعاده قد أسس الحزب على النظرة الجديدة الى الحياة، أي أن هذه النظرة- الفلسفة تكونت عند سعاده قبل تأسيس الحزب ولم تتكون تدريجياً بعد تأسيسه. هو يقول في مقالة طريق الادب السوري سنة 1942 : “فلما جاءت النظرة الجديدة الى الحياة والكون والفن التي نشأت بسببها الحركة السورية القومية الاجتماعية…”. فعندما تكون النظرة الى الحياة والكون والفن سبباً في نشوء الحركة القومية الاجتماعية يعني أن هذه النظرة ليست مستجدة أومستحدثة بعد تأسيس الحركة.

فنظرة سعاده الى الديمقراطية وفكرة “التعبير عن الإراده العامة بدل تمثيل الارادة العامة” هي جزء من نظرة سعادة الى الحياة، ولم تنشأ في سانتياغو بل نشأت قبل تأسيس الحزب، ونظام الحزب قد تأسس عليها. في سانتياغو استعمل سعاده عبارته الجديده التي لم يكن قد استعملها سابقاً، أما المضمون فقد كان حاضراً ومعمولاً به في الحزب منذ تأسيسه سنة 1932. فإذا كان مسمّى الديمقراطية التعبيرية لم يظهر إلا في مقالة نسر الزعامة سنة 1945 (وليس في محاضرة سانتياغو سنة 1940) فليس معنى ذلك أن مضمونه لم يكن معمولاً به في الحزب. وهذا ينطبق على الديمقراطية بشكل عام، فإذا لم تكن كلمة ديمقراطية موجودة في المبادئ الاساسية ودستور الحزب فلا يعني ذلك إن مضمونها لم يكن معمولاً به في الحزب. “الإتجاه الديمقراطي في الحزب واضح وصريح ولا يرفضه عقل صحيح” (سعاده)

أن فكرة التعبير عن الإرادة العامة، التي معناه تحقيق المصلحة العامة، كما سيجيء، قد وردت في الخطاب المنهاجي الأول سنة 1935 عندما تطرق سعاده الى شرح النظام القومي الاجتماعي وقال عنه “أنه لا بد منه لتكييف حياتنا القومية الجديدة ولصون هذه النهضة العجبة من تدخل العوامل الرجعية التي لا يؤمن جانبها والتي قد تكون خطراً عظيماً يهدد كل حركة تجديدية بالفساد في ظل النظام البرلماني التقليدي الذي لا سلطة له في التكييف“. وعندما قال إن نظامنا لم يوضع على قواعد تراكمية تمكِّن من جمع عدد من الرجال يقال أنهم ذوو مكانة يقفون فوق أكوام من الرجال تمثل التضحم والتراكم بأجلى مظاهرهما بل على قواعد حيوية تأخذ الأفراد الى النظام وتفسح أمامهم مجال التطور والنمو على حسب مواهبهم ومؤهلاتهم“.

أما في دستور الحزب فقد وردت الفكرة في المادة الخامسة، ووردت آليتها في المرسوم الدستوري عدد سبعة. وهذا ما سأوضحه بعد قليل، بعد تبيان خطأ تفسير الامين سلّوم لمعنى “التعبير عن الإرادة العامة”.

سلّوم لا زال يأخذ بالمعنى الأدبي الشائع العادي لكلمة تعبير، كأن يعبّر المرء عن نفسه وضميره ورأيه وموقفه. لم ينتبه، برأيي، أن التعبير عن الإرادة يختلف كثيراً عن التعبير عن الرأي. التعبير عن الإرادة هو شيء يتعلق بالمصالح وتحقيقها وتأمينها أكثر مما يتعلق بالأفكار وشرحها. فالإرادة هي بنت المصلحة ولا إرادة دون مصلحة. التعبير عن الإرادة ليس معناه الإفصاح عمّا نريد بل معناه تحقيق ما نريد، أو على الاقل السعي فوراً لفعل شيء لتحقيقه.

ولفهم معنى “التعبير عن الإرادة العامة”، يجدر بنا الرجوع الى كتاب نشوء الأمم وفهم معنى الإرادة وعلاقتها بالمصلحة وفهم كيف أن المصلحة هي وراء كل إرادة وكيف أن الإرادة هي لتأمين ولتحقيق مصلحة. سعاده يقول في ذلك ما يلي:

“وما الإرادة إلا التعبير عن الحياة، نحن نريد مصالحنا لأننا نريد حياتنا والإرادة على قدر المصلحة”.

“المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدهما سلبي وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة. فالمصلحة هي التي تقرر العلاقات جميعها والإرادة هي التي تحققها“. “وبديهي أنه لا إرادة حيث لا مصلحة، فحين يجوع الإنسان يريد أن يأكل وحين يعطش يريد أن يشرب وحين يشتاق يريد أن يحب. فالمصلحة هي طلب حصول إرتياح النفس وتحقيق ارتياح النفس هو غرض الإرادة.” (نشوء الأمم، الفصل الأخير)

هكذا يكون التعبير عن الإرادة معناه تنفيذها وتحقيق المصلحة التي كانت وراءها.

هكذا يصير التعبير عن الإرادة العامة يعني معرفة الإرادة العامة ثم تنفيذها وتحقيقها، “إعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”… “لجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة”. (سانتياغو)

أمّا تمثيل الإرادة العامة فهو مجرد رسم صورة عنها (مثلها) ونقلها من المجتمع الى الدولة، أي وضعها أمام السلطة في الدولة، هو تمثيلها والإكتفاء بذلك دون القدرة على فعل شيء وتغيير شيء وتحقيق شيء وتنفيذ شيء من هذه الإرادة. وهكذا يكون تمثيل الإرادة العامة هو شيء جامد يتعلّق بما حصل، أي بوصف هذه الإرادة كما هي دون شرط  توفر الإمكانات والقوى و”وسائل التنفيذ الموافقة” التي تحقق هذه الإرادة وتجعلها نافذة.

وسعاده قد أفصح عن هذا المعنى، وعن الفرق بين تمثيل الإرادة العامة والتعبير عنها، في جملة قصيرة لكن واضحة كثيراً وهي:

“التمثيل  أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد“. هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري أن يصلحه: تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”. (سانتياغو سنة 1940)

وقد كرر سعاده وأعاد ذكر صفة الجمود والشلل الذي يميِّز تمثيل الإرادة العامة عندما قال:

إن الديمقراطية الحاضرة قد إستغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الإنقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة القومية الإجتماعية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة، الذي هو شكل ظاهري جامد. (نفس المصدر).

سعاده قال لنا أن فكرة التعبير عن الإرادة العامة هو إنقلاب جديد تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية، فيجدر بنا الأخذ بالمعنى الفلسفي الجديد لكلمة التعبير عندما تكون مقرونة بكلمة الإرادة، ولا نبقى أسرى المعنى العادي، غير الفلسفي، لكلمة التعبير عندما نجردها من كلمة الإرادة. أن الامين سلّوم لا زال يستعمل المعنى الأدبي اللغوي الشائع لكلمة تعبير عندما يتكلم عن الإرادة العامة، وهذا واضح في كثير من عباراته، وهذه واحدة منها: ” فلسفة الإنسان – المجتمع، الإنسان الجديد، في تجلّيها الواقعي، في الحزب، ومن ثم في المجتمع، لا تمنح لأحدٍ التعبير عن آخر. لا المسؤول في المؤسسات العليا (يعبّر) عن المسؤول في المؤسسات الأدنى، ولا المسؤول يعبّر عن الرفيق، ولا الأمين يعبّر عن غير الأمين. العلاقة بين المؤسسات والأفراد محكومة بالصلاحيات، فيما (التعبير عن الإرادة العامة) صفة لمحصلة الفعل العام له” (انتهى كلام سلوم). فعندما نقول مثلاً إن المسؤول يعبّر أو لا يعبّر عن الرفيق، فهذا يختلف كثيراً عن قولنا أن المسؤول يعبّر أو لا يعبّر عن إرادة الرفيق. فالتعبير عن الرفيق يعني شرح ما يريده الرفيق والإكتفاء بهذا الشرح دون تحقيق إرادته أو تنفيذ المصلحة الدافعة لإرادته، أما التعبير عن إرادة الرفيق فيعني تحقيق وتنفيذ ما يريده الرفيق، والفرق شاسع جداً، وهو الفرق بين الجمود والإنشاء.

وهكذا فأن تمثيل الإرادة العامة هو فقط إعلانها وإظهارها دون القدرة على تنفيذها وتحقيق مصلحتها، أما التعبير عن الإرادة العامة فهو تحقيقها وتأمين المصلحة العامة فعلياً.

أن الفرق الحاسم بين تمثيل الإرادة العامة والتعبير عنها هو كالفرق بين “الجمود” و “الإنشاء”. هو في القوة التنفيذية المحرِّكة المفقودة في الأول والموجودة في الثاني. وأن هذه القوة التي سمّاها سعاده “وسائل التنفيذ الموافقة” في محاضرة سانتياغو هي قوة “المواهب والمؤهلات” القادرة على “تكييف حياتنا الجديدة” حسب ما ذكره في الخطاب المنهاجي الأول سنة 1935. وما التكييف هنا غير الفعل والإنشاء والتنفيذ والتحقيق.

وقد نصت المادة الخامسة من الدستور على أن نظام الحزب مركزي تسلسلي حسب الرتب والوظائف، مما يعني أن الوظيفة لا يقوم بها إلّا صاحب الرتبة، أي صاحب “المواهب والمؤهلات”، أي القادر على التعبير عن الإرادة العامة، أي تحقيقها بفضل ما يحمل من مؤهلات. وقد أعطى المرسوم الدستوري السابع الآلية لذلك، بإنشاء رتبة الأمانة وشروطها وصفاتها الممتازة التي تؤهل حاملها لتولّي المهمات التي تقتضي هذه الصفات.

الديمقراطية الشائعة في العالم، ديمقراطية تمثيل الإرادة العامة، لا تطلب “صفات ممتازة” لتولّي السلطات التشريعية، بل أن كل ما تطلبه هو الحصول على الأصوات الأكثر في الانتخابات. فالجديد في الديمقراطية التعبيرية هو أنها تطلب شروطاً مؤهِّلة للقيادة، أي مؤهلات، وليس فقط أصوات. شرط المؤهلات هو معمول به في جميع المؤسسات المدنية في مجتمعات العالم، وجديد سعاده أنه نقل العمل به الى مستوى السلطات في الدولة بعد أن كان في مستوى المصالح المدنية في المجتمع فقط.

أن كثير من الرفقاء قد كتبوا في هذا الموضوع، وهناك دراسات كثيرة فيه نستطيع أن نستفيد منها، وليست كلها قرأنة بقرأنة.

3 – سعاده لم يخرج من بيروت.

تحت عنوان الخروج من بيروت  يعتبر الامين سلّوم أن سعاده الذي دخل في سانتياغو، قد خرج من بيروت. فحسب سلوم،  سعاده أعلن في سانتياغو عن الديمقراطية التعبيرية- التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيلها، وأعلن من بيروت الانتصار النهائي لتمثيل الإرادة العامة في الحكم. ويستشهد بقول سعاده في بيروت سنة 1948 في المحاضرة السابعة في شرح المبدأ الاصلاحي الاول (فصل الدين عن الدولة). فسعاده هناك يشرح النزاع بين السلطة الدينية المستمدة من الله والإرادة القومية ويقول:

والانتصار الفاصل في النزاع هو الذي حدث في الثورة الفرنسية. ومن هذه الثورة ومن الثورة الأميركانية التي سبقتها، نشأت فكرة الديمقراطية العصرية التي تعني في الأخير تمثيل الإرادة العامة في الحكم، جعل الإرادة العامة للشعب أو للأمة، الإرادة النافذة، ومرجع الأحكام. وقد انتصر هذا المبدأ انتصاراً نهائياً ولم تبقَ سوى جماعات قليلة ضعيفة الشأن لا تزال تعمل بالمبادئ السابقة، مبادئ السلطة الدينية”.

 

يستنتج الأمين سلّوم من قول سعاده الآنف الذكر بأن سعاده قد خرج من ديمقراطيته التعبيرية، من بيروت، ويقول:” بهذا المعنى ندخل في سانتياغو ونخرج من بيروت، مع التعبيرية في حالتها الأخيرة، التي في حقل الدولة تتوسل التمثيل السياسي للتعبير عن الإرادة العامة، وفي الحزب تتوسل التمثيل التفاضلي للتعبير عن الإرادة العامة فيه”.

ويضيف:

في هذا الوضع تماماً تصل التعبيرية إلى معناها الأخير، بكون الشعب بشخصيته القومية الواحدة ومجتمعه الواحد ونظام حقوقه الموحد، يعبّر عن إرادته مباشرة، عبر التمثيل السياسي”.

ويقول أيضاً:

في الدولة القوميّة، التمثيل السياسي هو التعبير الأخير عن الإرادة العامة للشعب”.

 

لكن لا، فسعاده لم يعلن الإنتصار النهائي لمبدأ تمثيل الإرادة العامة على مبدأ التعبير عن الإرادة العامة، بل أعلن الانتصار النهائي لمبدأ التمثيل السياسي على مبدأ الحكم بإسم الله، والفرق كبير. فسعاده في بيروت لم يخرج عن مبدأ التعبير عن الإرادة العامة لصالح مبدأ تمثيلها ولم يعلن الانتصار النهائي لهذه على تلك. سعاده أعلن في بيروت عن الانتصار النهائي لمبدأ تمثيل الإرادة العامة على ما قبلها وليس على ما بعدها، أي على مبدأ الحكم باسم الله وليس على مبدأ التعبير عن الإرادة العامة، فكيف يكون خرج من بيروت على ما أعلنه في سانتياغو!!

ثم أن فرقاً كبيراً يجب أن ندركه بين معنى تمثيل الإرادة العامة ومعنى التمثيل السياسي. بين مبدأ تمثيل الإرادة العامة الذي قال عنه أنه شاخ ولم يعد يصلح، وبين مبدأ التمثيل السياسي الذي قال به سعاده دائماً لأنه حق من الحقوق الاساسية في المجتمع. سعاده من الاساس مع التمثيل السياسي وليس ضده، وقد طالب به وأدرجه كبند من برنامجه الانتخابي سنة 1947 (الاعمال الكاملة ج 7 صفحة251).

 سعاده لم يقدم لنا أفكاراً متناقضة ولم يدعُ للرقص على الافكار ساعة مع التعبير عن الإرادة العامة وساعة مع تمثيلها وساعة بين بين.

أن قول الأمين سلّوم أن “التمثيل السياسي هو التعبير الأخير عن الإرادة العامة للشعب” لا يعطي فكرة واضحة وصحيحة عن معنى التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيلها. أن التعبير عن الإرادة العامة لا علاقة له بالتمثيل السياسي، وأن تمثيل الإرادة العامة يختلف كثيراً عن المثيل السياسي.

4 – نعم للاستقراء التاريخي ولا للقرأنة.

 سعاده دعا الى مبادئ أساسية واضحة هي قواعد انطلاق بإتجاه واضح، وعصيّة على التأويل المتأرجح في إتجاهات مختلفة بحجة عدم جواز إخراج النصّ من التاريخ أو “تجريد النص من الشروط التاريخية”، وبحجة النسبية و عدم جواز الإطلاق.

سعاده لم يقل أبداً أن كل مطلق هو نسبي مهما قيل أنه مطلق غير نسبي وكل مطلق هو لا شيء، بل قال أن “كل مطلق ليس واضحاً هو نسبي مهما قيل أنه مطلق غير نسبي، كل مطلق مبهم هو لا شيء”. وسلّوم طبعاً يعي ذلك وهو أورد النص الحقيقي الصحيح في مقدمة مقالته التي نحن في صدد مناقشتها. فالمطلق المبهم هو ما انتقده سعاده وانتقد اعتماده والأخذ به، وليس المطلق الواضح، فليس كل مطلق هو مطلق غير واضح، فمن المطلق ما هو واضح. مثلاً على ذلك هي مباديء سعاده الاساسية، فهي مطلق واضح. مبدأ “سورية للسوريين والسوريون أمة تامة” هو مطلق واضح، ومبدأ “مصلحة سورية فوق كل مصلحة ” هو مطلق واضح. أمّا تعيين مصلحة سورية السياسية مثلاً من هذه العلاقة السياسية والاقتصادية مع هذه الدولة أوتلك فهو نسبي غير مطلق لأنه خاضع لما هو نسبي متحرك مع الزمان “والشروط التاريخية” ولا يتعلق فقط بسورية وإرادتها ومصلحتها وحدها، بل يتعلق أيضاً بموقف وسياسة هذه الدولة أو تلك من سورية ومصلحتها. لا شيء يجب أن يأخذنا لتجنب كل ما هو مطلق، ويأخذنا لإعتماد منهج جديد في التفكير يسميه نزار سلّوم “المنهج النسبي الذي يمكن أن يوصلنا للوضوح”. فمنذ البداية نرى الغموض واضحاً في منهج نزار سلوم، فهو يقول أن منهجه النسبي يمكن أن يوصلنا للوضوح، وهذا معناه أيضاً أن منهجه النسبي يمكن أن لا يوصلنا للوضوح، فكيف نقرر اعتماده؟ أليس من الأفضل إعتماد المنهج العلمي في مقاربة القضايا والأفكار والفلسفات لفهمها ومعرفتها بوضوح بعد درسها ودرس المسائل التي تناولتها بوقتها وزمانها ومكانها وظروفها وإذا كانت تنطبق على كل مكان وكل زمان وكل الظروف أم لا؟ سعاده أخذ “بمنهج الاستقراء” في أبحاثه، وكان يسمّيه الاستقراء التاريخي حيناً والاستقراء التحليلي حيناً آخر، وهذا منهج علمي اعتمده سعاده وأوصانا بأعتماده لفهم ما يشكل علينا فهمه. فها هو سعاده يدلنا على كيفية فهم ما أشكل علينا فهمه طيلة ألف وخمسماية سنة، يقول:

“أن الإستدلال على معنى الآيات بصورة استبدادية ومن غير الرجوع الى موضع الآية وموضوعها أو الحادث الذي نزلت فيه هو أمر كثيراً ما يفضي الى غير أو عكس المقصود من الآيات التي منها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيّد فيجب فهم ذلك بدقة لغصابة المعنى الحقيقي والغرض المقصود” (الاسلام في رسالتيه- الحلقة 24). وأيضاً:

“إن ثنائية النص القرآني ليس معناها أنه يوجد للرسالة الأسلامية خطتان متباينتان ومستقلتان الواحدة عن الأخرى استقلالاً كلياً بحيث يجوز للمؤمن ان يختار إحداهما مرة والأخرى مرة أخرى كما يروق له أو يوافق مصالحه أو مطامعه، بل معناها أن هناك وحدة كامنة بين نوعي النص القرآني الاسلامي، وأن هذه الوحدة يجب أن تستخرج من مبدأ ترابط الاسباب والمسببات ومن معرفة نسبة الواسطة الى الغاية ومن درس العلاقة الوثيقة بين النص والأسباب الموجبة والحوادث الجارية. فإذا لم يتجه الاجتهاد الى استخراج هذه الوحدة بهذه الطريقة الاستقرائية التحليلية فلا مهرب من الوقوع في مغالطات الهوس الديني السياسي الذي كثيراً ما يضحّي حقيقة الدين على مذبح الأهواء الجامحة ويطوِّح بالمسلمين في مغامرات لا تعود على دينهم بفائدة ولا على دنياهم بخير” (الحلقة 27).

أن منهج الاستقراء التحليلي،  التاريخي، العلمي، الذي اعتمده سعاده ودعا الى اعتماده يوصلنا حتماً الى فهم القضايا الفكرية الفلسفية، ويبعدنا عن “القرأنة” ويجنبنا إطلاق الأحكام المتسرعة فلا نعود نقول، مثلاً، أن سعاده نفسه أعلن عن الانتصار النهائي للديمقراطية في وجهها التمثيلي، هذا القول “المطلق غير الواضح”، حيث لا نعرف من معنى “الوجه التمثيلي” إذا كان يعني التمثيل السياسي أم تمثيل الإرادة العامة، وهما شيئان مختلفان كثيراً.

 

0
0