لبنان، أي نموذج؟

Share

لا أحد يشك أن العالم العربي يعيش أزمة حقيقية، وأزمته لا تقتصر على مبحث بعينه، بل يمكن القول إنها متشعبة يكاد أحدنا ييأس من إمكانية وجود نموذج ما يمكنه ان يكون خشبة خلاص.

لقد خرجنا مؤخراً من مئات القرون من الحكم الديني السحيق منه والمعاصر، واردنا أن نتناغم مع النموذج الغربي لما دعي بالدولة الحديثة. غير أن ذاك النموذج لم يرَ النور بمعجزة، بل أتى كنتيجة لصراعات مريرة دفع ثمنها الأوروبيون عشرات الملايين من الضحايا، ولم يكتفوا بذلك، بل سارعوا الى البحث عما يعزز وجوده واستدامته بصرف النظر عن حجم وقوة وشكل النظام السياسي لهذه الدولة او تلك، بإنشاء السوق المشتركة ولاحقا توحيد العملة وسمة الدخول وانشاء البرلمان الاوروبي.

تبنّي العالم العربي لذاك النموذج جاء مبتوراً، حيث بقي الرهاب الديني مسلطًا، كما القانون والمؤسسات وتداول السلطة، الذي هو حجر الزاوية في الغرب، لكنه رهن إرادة زعيم البلاد او الحزب الذي يرعاه بنفسه لقيادة المجتمع. الأمر الذي أفرغ الدولة بنموذجها الغربي من مضمونها، وأدى، مع داعش، إلى دولة هجينة تتبنى نموذج الخلافة دون ان يكون للإسلام اي تواجد فيه الا بما خص الاحوال الشخصية.

سردنا الآنف للقول إن هناك أرضية خصبة في لبنان لقيام دولة النموذج رغم ما تشهده من تجاذبات وخضّات وتناتشات على كل الصعد، وذلك لفائض الحرية. والخصوبة فيه متمثلة بمجتمعه الديناميكي الذي لا يكلّ ولا يتعب مخافة ان تصادر منه الحرية كما حال معظم اشقاءه. وما ينقص تلك الدينامية إقرار الاطراف بفشل النماذج التي اتبعت سابقاً، سواء الميثاق الذي وأدته الحرب الاهلية، او الطائف الحالي الذي ارتضاه الافرقاء مخرجاً منها. ولكن، مع الطائف، ومع مصادرة المملكة العربية السعودية لقراره الاقتصادي والجمهورية العربية السورية لقراره السياسي والأمني، بقي في حاضنة حديثي الولادة، وعندما حاول متعهد الاقتصاد مد نفوذه على السياسة كاد البلد أن يذهب ادراج الرياح.

يعتبر البعض هذه الصورة قاتمة، ولكننا نرى فيها فرصة، كما حال كل الازمات التي تواجه المجتمعات بمسيرتها الإنسانية. هناك إمكانية لإقامة نموذج عصري لدولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة وتكافؤ الفرص في لبنان كما ارادها مطلقي النموذج على الورق، كخطوة على طريق الانفتاح وبناء أشكال من الوحدة الاقتصادية مع الجوار. الشرط هو الخروج من الخلاف على جنس الملائكة والاعتراف بان دولة الفيدرالية الطائفية بمركزيتها او بعدمها هي مقتل للبنان. إنها الطريق السريع لحكم ولاة الطوائف بالسياسة، وأتباعهم بالإدارة والأمن والقضاء، حيث الفساد والمحسوبية هما سيدا الموقف ناهيك عن الارتهان للخارج لتعزيز موقف هذا الفريق او ذاك. والاعتراف بان الدولة المدنية المحايدة بالداخل قبل الخارج هي خشبة خلاص الجميع وآليات بعثها وارهاصاتها متوفرة في كل الحقول. وأن دينامية الشعب الذي أثرى بغربته أي ارض ارتحل اليها كفيل بفعل ذلك في بلاده لا سيما وهي تتمتع بكل الظروف الطبيعية ولا ينقصها سوى الاستقرار. 

0
0