لم تنتظر أصوات النشاز صمت المدافع والبنادق في جرود البقاع الشمالي الشرقي حتى تباشر معزوفاتها الممجوجة لكثرة ما يتم تكرارها تحت شعارات كاذبة تتلطى بـ “سيادة الوطن”.
أصوات النشاز هذه ليست جديدة علينا، وليست مستغربة من الجاهزين أبداً للعمالة والارتباط والارتهان مع أي طرف يلوّح لهم بورقة المصالح الطائفية الضيقة.
أصوات النشاز هذه تنطلق من قاعدة مذهبية، تنظر إلى مواطنها المختلف ديناً وطائفة بوصفه عدواً وجودياً. وترى في القوى الخارجية الطامعة حليفاً ضد أبناء الوطن.
من وعد بلفور، مروراً بالاستعمار الفرنسي، وصولاً إلى العدو الصهيوني، لا يجد أصحاب الأصوات الناشزة غضاضة في لعب دور الطابور الخامس الفاقد لكل القيم الوطنية والاجتماعية.
ما أن أطل المشروع الصهيوني مطلع القرن الماضي حتى آزرته أصوات محلية مشبوهة. وما أن اجتاحت الدبابات الصهيونية الأراضي اللبنانية سنة 1982 حتى كان أحفاد تلك الأصوات يستظلون بالنجمة السداسية للوصول إلى بعبدا. ونكاية بالمواطن “المختلف” ساندوا الإرهابيين بكل مشاربهم ونزعاتهم.
معركة الجرود أعادت تعرية هذه الوجوه التي حاول “إتفاق الطائف” أن يغسل عنها أدران التعصب والعمالة والانتهازية، فلم تنفع معها قيم التسامح والتساهل. فكانت تعود إلى عوائدها القديمة المُذِلة كلما شعرت بأن الظروف مؤاتية… أو كلما أغرتها القوى الخارجية بالمنافع الذاتية.
الجماعات الإرهابية في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع لم تهبط على مناطق الحدود الشامية ـ اللبنانية من المريخ، ولم تنشأ في بيئات غير حاضنة. هي نتاج طبيعي للواقع الطائفي البغيض في الكيان اللبناني. لقد أوجدها وموّلها وأمنّ لها الغطاء السياسي والاجتماعي والأمني نواب ووزراء وقادة أحزاب لبنانيون معروفون بالأسماء وبالممارسات. ومعظم هؤلاء يجلس بوقاحة عزّ نظيرها تحت قبة مجلس النواب أو على مقاعد الوزارة الوثيرة في السراي… بينما دماء أبطال الجيشين اللبناني والشامي والمقاومة تروي تراب الوطن الغالي.
إن الاحتفال بالانتصار على الإرهاب، برأينا، لن يكون مكتملاً إلا بمحاكمة أصحاب الأصوات الناشزة الذين يهربون إلى الأمام الآن منعاًً للمحاسبة العلنية. مقاتلو “داعش” و”النصرة” هزموا واستسلموا ورحلوا، لكن منظري الإرهاب ورعاته وسياسييه ما زالوا يسرحون ويمرحون في الوزارة والنيابة والأحزاب ووسائل الإعلام من كل حدب وصوب.
إنهم يتخذون من طوائفهم متاريس يتحصنون فيها للدفاع عن خياناتهم ولتغطية تورطهم في الإرهاب ومسؤوليتهم المباشرة عن دماء العسكريين والمدنيين الذين سقطوا في كافة المناطق اللبنانية خلال السنوات الخمس الماضية. إن مسؤوليتهم جنائية قانونية بقدر ما هي مناقبية وطنية. وليس من حق أية جهة رسمية أو حزبية أن تغض الطرف و”عفا الله عما مضى”، كما حدث سنة 2005 في خضم الهستيريا المبرمجة التي رافقت اغتيال الحريري الأب!
الطوائف، من حيث هي جماعات إيمانية، يجب أن تنأى بنفسها علناً وبكلام غير موارب عن المواقف المشبوهة لمن يدعي النطق بلسانها. لا توجد “طائفة وطنية” وأخرى “غير وطنية”. هذا منطق حاول بعضهم الترويج له خلال الحرب الأهلية سنة 1975، لكنه سقط على أرض الواقع. هناك أفراد وأحزاب متورطون… ومعروفون!
الأفراد والجماعات الذين تواطأوا مع الإرهابيين وراهنوا عليهم، بل وقدموا لهم كل أشكال الدعم، يتحملون وحدهم مغبة جرائمهم، ومن الضروري منعهم من التلطي خلف متاريس طوائفهم.
ليست الإشكالية الآن بين طائفة وأخرى، بل بين المواطنين والطائفيين، وبين الوطن والنظام الطائفي!
آن أوان الخيار والحسم. فلا تسوية طائفية مع المرتهنين إلى الخارج، كي لا يراق دم جديد كلما أطلت على بلادنا مشاريع الخيانة.