كتاب مفتوح إلى فتى الربيع- بشير عبيد

Share

الامين بشير عبيد

بقلم: الشهيد الأمين بشير عبيد

كان قاسياً علينا هذا الشتاءُ الذي عَبَرَ يا سيدي. كان غيرَ الشِّتاء. أحمرٌ بلَونِ الدّماءِ التي سالت. أسودٌ على شاكلةِ الأحقادِ البُركانيةِ التي انفجرت، وأصفرٌ على شُبْهةِ الأنيابِ التي وَلَغَتْ والأشلاءِ التي تناثرت.

وطويلاً طويلاً كان هذا الذي عانينا. لم يكُنْ أشْهُراً ولا فصولا. سنوات. وكلُّ يومٍ منها شهرٌ من جُلْجُلة، وفَصْلٌ من مُحاكمةٍ لاغتيال، وسنةٌ من حَبَلٍ لوَليدٍ مَيْتٍ في أحشاءِ أُمّه.

لا مطرَ… ولا غيمةَ… ولا سُنونُوَّةَ واحدة، ولا شقيقةَ نُعمانٍ صغيرة.

دِماءٌ… دِماءٌ. وسَوادٌ يَلِفُّ الأرضَ والسَّماءَ والوُجوهَ حتّى عُيونِ الأطفال. جَفَّتِ الأرضُ وغاضَتْ ثَدْيُ المُرْضِعات، والخنازيرُ فالِتَةٌ على هواها تَسْرَحُ وَتَمْرَحُ من مَلاعِبِ عَشْتارَ حتّى أوكارِ النُسورِ والعُقْبان. مِياهُ دِجْلَةَ والفُرات، أحواضُ بَرَدى والعاصي، ضِفافُ الأُرْدُنِّ واللَّيطاني، وحتى قَناةُ النيل… رَوْثٌ وقاذورات. أمّا نَهْرُ الصّليبِ ووادِي الجَماجِم، فَصليبُ جَماجِمٍ من خَشَبِ الأرز ولكِنْ بِدونِ مَصْلوب!

وما تَبَدَّلَ مَسارُ التّاريخِ يا سَيّدي.

نَذْكُرُ نَحْنُ أنَّ ألفَ ألفِ نَخْلَةٍ ما بَيْنَ دِجْلَةَ والفُرات شَقَّتْ صَدْرَ الأرضِ يومَ شَهادَةِ دَموزي السَّوْمَرِيّ، وَحَمَلَتْ مَرْدوخَ البابِلِيَّ على أكْتافِ سُعُفِها يُفَتِّشُ عن الخُلودِ والانْتِصارِ على المَوت. حَمَلَتْهُ حتّى تُخُومِ آرامَ وكَنْعانَ إلى جِبالِ الأرز.

وألفُ ألفِ جَفْنَةٍ انعَقَدَتْ عَناقِيدُها يَوْمَ زَهَّرَ شَبابُ آدُونَ ما بَيْنَ بَرَدَى والبَحْر، وتَعَتَّقَت خَمْرَةٌ إلَهِيَّةٌ في هياكلِ البَعْث، فأَعْتَقَتْ إلَهَ الحُبِّ والخَصْبِ والشَّبابِ وبَعَثَتْهُ رمزاً لتَجْديدِ الحَياةِ الدَّائِمة.

وألفُ ألفِ زَيتونةٍ دهريةٍ فَيَّأت عِيسى وَهْوَ يَغْتَسِلُ في نهرِ الأُرْدُنِّ ويَغْسِلُهُ بأطرافِ قَدَمَيْهِ من أوحالِ اليهودية، وَمَسَحَتْ جَبينَهُ الإلَهِيَّ بالزّيتِ الخالدِ فما بَقِيَ جَبينٌ لِمَلِكٍ على الأرضِ إلاّ والزَّيْتُ مَسْحَتُهُ المُقَدَّسَة، ولا بَقِيَ صُعْلوكٌ في الدُّنيا إلاَّ وهو ابنُ حبيبٌ لأبينا الذي في السَمَوات.

وألفُ ألفِ صَنَوْبَرَةٍ سخيّةٍ في كَنَفِ صِنّينَ فاضَتْ بَخوراً جَبلياً مع فتى الربيع. وصنّينُ ما عادَ جبلاً شامخاً، ثلجاً أبيضَ ولا صنوبراً أخضر… بل عَموداً يرفَعُ الأرضَ إلى السماءِ ويَشُدُّ السَماءَ إلى الأرض. وفي حناياه وثناياه صَخرةٌ عليها نَصْبٌ لدموزي وأَثَرٌ لمردوخ، تِمثالٌ لآدونَ وصليبٌ لابنِ العذراء. وعلى قِمَّتِهِ إكليلٌ من السَّماءِ ناصِعٌ كقَلْبِ الله.

تَعْرِفُ ذلكَ يا سيدي، تَعْرِفُ أنَّ التّاريخَ ما بدّلَ مَسْراه…

فلا دِجْلَةُ والفُرات، ولا بردى والأُرْدُنّ، ولا نهرُ صنّينَ ونهرُ آدونَ بَطَلَتْ أن تجري. ولا أُسْطورةُ الصِّراعِ والفِداءِ والبَعثِ تَوَقَّفَ نزيفُها وَخَتَمَتْ لها جِراح، ومائةُ شاهِدٍ لِشَهيدٍ على كُلِّ رَبْوَةٍ ومضيق. تَعْرِفُ ذَلك، ونَعْرِفُ أنَّ حياتَنا مَلاحِمُ دماء، ومَوتَنا أساطيرُ دماء، وأنهارَنا أنهارُ دماء. وحتى آلهتَنا ما ماتَ منها واحِدٌ إلاّ وأكفانُهُ دماء.

 أُمَّةٌ قَدَرُها الدماءُ والشُّهَداءُ ورسالتُها أنْ تَتَنَكَّبَ رِسالةَ البَعْثِ والفِداء. كما نعرفُ أن أرضَنا ما تزالُ هي هي، أرضُ الخيراتِ والبركات. نخلةٌ وكَرمة. زيتونةٌ وصنوبرة. سنديانٌ ووِزّال. أرزٌ وشيح. وأزاهيرُ أزاهيرُ ما فتحَ اللهُ منها وما ختم.

تعرِفُ كُلَّ ذلك. ولكنْ ما لا تعرِفُهُ أنَّ الخنازيرَ البريَّةَ تَبَدَّلَ تاريخُها ومسارُها. تكاثرتْ في أُمَمِ الأرضِ وتشَعَّبَتْ أصولُها وفروعُها. تجَمَّعَتْ من وراءِ البِحار، من أقاصي الأرض. تَلَبَّسَتْ كُلَّ الأرواحِ الشرّيرةِ التي طَرَدَها النَّاصريّ، وعادت لتَبْنِيَ هَيكَلَ الوثَنيّةِ من جَديدٍ وفي جَيبِها من فِضَّةِ العالمِ ما يُوازي عِظامَ كُلِّ الّذينَ استُشْهِدوا لقيامِ الملكوت. وفي يَدِها صَليبٌ من حَديدٍ يَقْذِفُ حِمماً وناراً وكبريتا. لَمْ يَبْقَ في جَنوبِنا إلاّ القليلُ من الزَّيتونِ المُقّدَّس. نُهِشَتْ جُذورُهُ وأُفْسِدَتْ أرضُه. زيتوناتُ بيرزيت وجبلِ الزَّيتونِ ما تزالُ صامِدَةً ولكِنَّها مُنْهَكَة. وقد تَحَوَّلَ نهرُ الأُرْدُنِّ عن مجراه!

وحَرَمُونُ مُثْخَنٌ حتّى نُخاعِ العَظْم، وأنيابُ الخنازيرِ تَرْتَعُ في جَنَباتِه. ويَوْمُ تَجَلَّى الرَّبُّ على قِمَّتِهِ أصبحَ ليلاً دامِساً وطويلا. وعُرْسُ قانا الجَليلِ صارَ مأتماً دائما. والخَمْرَةُ تَحَوَّلَتْ إلى ماء… وما بَقِيَ عَذْراء.

تَسْألُني عَنِ الصَّنَوبرات؟

أخْشابُ تَوابيتٍ وأعوادُ مَشانِقَ وسَلاسِلُ صُلْبانٍ مُعَلَّقَةٍ في رِقابِ الغُلْمان، وبعضُها مَعالِفُ وسِياجاتٌ لزَرائِبِ الخَنازيرِ البَرِّيّة. أسودٌ بلون الحِداد.

وَعَنِ النَّهر؟

وَحْلٌ بِلَوْن الدّم.

وَعَنْ عَين الصَّرَفَند؟

إخْتَنَقَت.

وَعَنِ الدّار؟

لَمْ يَبْقَ فيها حَجَرٌ على حَجَر. بَقِيَ الأساسُ وجِذْعُ السِّنْدِيانة وبقايا كُتُبٍ مَشْلوحَةٍ تقرأُها عُيونُ الشَّمْسِ وتَتَصَفَّحُها أيدي الريح.

وعن المُريدينَ المُؤمنينَ مِن أبناءِ صِنّين؟

أجْسادُ شُهَداءٍ مُعَلَّقَةٌ عَواميدَ ومَصابيحَ على الدُّروب، من سُفوحِ الزَّيتونِ عندَ مَرقَدِ مِلْكي صادق إلى قِمَمِ الصَّنوبرِ عِنْدَ مثوى البَعْل. وأفواجٌ تَلي أفواجاً.

لا تَعْقُدْ ما بين عينيكَ سيدي. خُذْني بِحِلْمِك. وحَقِّ عَينيك، صَدِّقْنِي العَهْد. في بطاحِ النَّخيلِ وَجَفَناتِ الكُرومِ ومَراقي الزَّيتونِ وجِبالِ الصَّنوبر، في جُذُورِها الضَّارِبَةِ إلى الأعماقِ النَّسْغُ ما يزالُ عنيداً كانزاً ينتظِرُ أوَّلَ طَلْعَةِ شَمْسٍ رَبيعيَّة. والأساسُ باقٍ، والمقالِعُ الصَّخْريَّةُ ما أكثرَها في روابينا، وجِذْعُ السِّنديانِ لا يموت. والكُتُبُ طَبَعاتُها في آلافِ الصُّدور. والنَّبْعَةُ الَّتي اختَنَقَتْ ستَعُودُ تُغَرِّد، ونَهْرُ صِنّينَ قادِرٌ أنْ يُفَتِّتَ الصُّخورَ ويَجْرِفَ إلى البَحرِ كُلَّ الوُحُولِ والأخْشابِ المُهْتَرِئَة.

خُذْنِي بِحِلْمِكَ سيِّدي. فالرَّبيعُ آتٍ مَهْما طالَ الشِّتاء. هذا إيمانُنا، إيمانُك. وما خَيَّبَتْ سَماؤنا لنا أمَلاً في تاريخِنا. ألمْ أقُلْ لَكَ إنَّ هذا الشِّتاءَ كان طَوَفاناً وكانَ طَويلاً وقاسيا، وغيرَ ما عَرِفَتْ أرْضُ الأصولِ والفصول؟

سَيِّدي فَتى الرَّبيع.

نَحْنُ نُعاهِدُكَ أنَّ الأنوارَ ستُضيءُ القِمَمَ في الرَّبيع، وشَقائِقَ النُّعْمانِ سَتَطْلَعُ كعادَتِها وبَعْضُ ألوانِها من زَهْوِ دِمائِنا، والصَّنَوبراتِ سَتَعودُ عِرزالاً دَرَجاتُهُ سَلالِمُ إلى السماء. أمّا الخَنازيرُ البَرِّيَّةُ التي قَتَلَتْ آدونَ وطَرَدَها الناصِرِيّ، فَسَتَعودُ إلى حَيْثُ شاءَ قَدَرُها أن تعود.

سيدي لك منا العهد والتحية.

آذار سنة 1977

 

0
0