قصص حروب خاصة وأخرى عامة
في مجموعة الدكتورة صفية سعادة القصصية “رقعة زرقاء” (دار نلسن، 2019) شخصيات تخوض حروباً على مستويات ثلاثة:
أولاً: حرب البقاء في خضم الحرب الأهلية التي اندلعت، فعاثت الدمار في الإنسان والبنيان. نساء يسعين إلى الهرب من الموت وسط هذا الجحيم، يهربن إلى الطوابق السفلى، يبحثن عن وسائل لمعالجة المشاكل اليومية كانقطاع الماء والكهرباء، يختبئن في الغرف البعيدة عن القصف، يلجأن إلى المذياع كأنه كرة سحرية تبلغهن عن طرق النجاة، أو يغادرن مصطحبين أولادهن بانتظار جلاء الغيوم التي ظللت سماء الوطن. يأتي الوصف خانقاً مثل أجواء ذلك الزمن، حارقاً كالجراح التي لن يشفى منها أبداً أبناء ذلك الجيل، محملاً بمرارة ضياع سنين العمر وسط دخان القذائف والتشرد والأرواح المهدورة. خيط دقيق كان يفصلهم عن الجنون، خيط ما زال موجوداً في مكان خفي من لا وعيهم، يتهددهم عند كل منعطف.
“ملأت الحواجز الثابتة والطيارة أرجاء لبنان، شباب لم تتجاوز أعمارهم العشرين سنة يأمرون السيارات كما المارة بالوقوف، ويحملون في يدهم قرار موتك أو حياتك بسلطة مطلقة،
ثانيا: حروب اجتماعية، نسوية بشكل خاص، لشخصيات واجهن ظلم المجتمع البطريركي: أهل يحاصرون بناتهم بمجموعة من الأحكام، يختارون مسار حياتهن والشريك الذي يجب أن يرتبطن به، أزواج يعانون من عقد نفسية مختلفة، يفجرونها عنفاً وحصاراً على زوجاتهم… تعيدك قراءة هذه المشاهد إلى القرن الماضي وصراع النساء ضد مجتمع يظلمهن ويقيد حريتهن، فتتساءل: ماذا بقي من آثار تلك الحقبة؟ هل ما زالت المرأة اليوم في بلادي مسجونة ضمن قضبان التقاليد الاجتماعية والدينية؟ كم معركة بقي عليها أن تخوضها لتنال كامل حقوقها؟
ثالثا: حرب ابنة أنطون سعاده. في ثلاث قصص من المجموعة، يتحول السرد من صيغة الغائب إلى صيغة المتكلم. ورغم قناعتنا أن كل واحدة من الشخصيات النسائية في المجوعة تحمل بعضاً من معاناة وصراع الكاتبة، إلا أن ما يسمى “بقانون النوع” يحتم علينا أن ننظر إلى تلك الشخصيات بصفتها شخصيات متخيلة، ابتكرتها الكاتبة، بينما تسمح لنا ال “أنا” في القصص الثلاث، بالإضافة إلى ما نعرفه عن حياة الكاتبة، أن نقرأها بصفتها سيرة ذاتية، أن نقرأها بنهم لإشباع توقنا إلى معرفة كل ما يتعلق بأنطون سعاده وعائلته. في هذه القصص، يتحول السرد، يصبح أكثر حميمية وعصرية، أكثر قرباً من القارئ. في قصة “الرحلة” تروي صفية سعادة معاناتها في بداية الحرب الأهلية، فتكتب:
“مر عام على جحيم بيروت، وحده القصف يضيء سماء ليالينا المذعورة منذ انقطاع الكهرباء والماء ثم الهاتف.
على ضوء الشمعة، أنقل فراش ولدي الذي لم يتجاوز العامين، إلى الفسحة الصغيرة أمام مدخل البيت ومقابل المصعد الذي توقف نهائياً عن العمل. إنه الملاذ الوحيد الآمن، فلا نوفذ ولا أبواب تطل منه على العالم الخارجي.
يوما بعد يوم أودع الأصدقاء المغادرين دون رجعة، يتسلقون الباصات بعد أن أقفل المطار وهم يلعنون هذا البلد الذي انتفت الرحمة بين أبنائه.”
تأخذ الكاتبة، بعد أن تُبَلّغ من الجامعة أنها أصبحت عاطلة عن العمل بسبب تناقص عدد الطلاب، قرار المغادرة على متن سفينة تقل اللبنانيين الهاربين من صور إلى قبرص، وتروي فصول هذه الرحلة الصعبة والوصول إلى قبرص والبحث المضني عن مأوى بانتظار الطائرة التي ستقلها إلى باريس.
في قصة “حالة طوارئ”، تروي ما حل بها إثر الانقلاب الذي قام به السوريون القوميون الاجتماعيون هام 1961، وقد كانت لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها. فبينما كانت في مركز الطلبة توضب هدايا لحفل سيقام في كازينو لبنان مع أربعة من الطلبة، فوجئوا بهدير آلية عسكرية، ثم بدخول جنود مسلحين قاموأ باعتقالهم. اصطحبوا صفية إلى المحكمة العسكرية بعد أن رفضوا السماح لها بالاتصال بخالتها لإبلاغها بما حصل… بعدها تأتي رواية أيام الاحتجاز الأربعين، بما فيها من معاناة وحرمان لشابة لم تكن تفقه حقيقة ما جرى.
“كنت في حالة صدمة. تتصارع الأسئلة في رأسي، لماذا نقلت إلى هذه الثكنة؟ هل سأحاكم جراء توضيبي بعض الهدايا؟ هل تم احتجازي بسبب اسم والدي؟ هل سأخسر سنتي الدراسية ومنحتي في الجامعة الأميركية؟”
ترفض السلطات الإفصاح عن وجودها في السجن، وتترك الخالة في حال يرثى لها لجهلها مصير ابنة شقيقتها في تلك الظروف الصعبة. وعندما يطلقون سراحها، يرفضون تسليمها تذكرة هويتها، فتبقى بلا هوية إلى حين تخرجها من الجامعة.
ولعل القصة الأكثر تاثيراً هي “خالتي التي ظلمناها”، فللعنوان دلالة واضحة تكاد تلغي ضرورة الشرح، إذ يكفي أن ندقق في الفاعل، وهو “نحن”، أي الظروف الصعبة التي أجبرت ديانا، تلك الشابة الجميلة، على الاستقرار في الوطن ورعاية بنات شقيقتها الثلاث بينما كانت أمهم قابعة في المعتقل، بالإضافة إلى الكاتبة نفسها التي كانت في عمر المراهقة في ذلك الوقت، وهو سن يصعب فيه التعامل بين الأهل وأبنائهم، فكيف لخالة شابة، ولدت ونشأت في بيئة مختلفة، وهي محاصرة بالخوف على البنات اللواتي ترعاهن أن تجتازه بسلاسة؟ ولعل اللجوء إلى زمن الماضي في “ظلمناها” يشير إلى مراجعة قامت بها الكاتبة، كتلك التي يقوم بها كل شخص راشد بعد انقضاء ثورة المراهقة.
قصة الخالة ديانا حزينة. هي جزء من مأساة تلك العائلة التي أصيبت بمختلف الآلام لأن الأب اختار أن يعمل لنهضة أمته في بلاد تحاصرها الأطماع الخارجية والداخلية التي تحارب بشراسة كل أمل بالخلاص.
“زرت خالتي في بيونس آيرس عام 1981. لم تشتك يوماً بأن بقاءها معنا قضى على حياتها الخاصة، وعلى أحلامها ومستقبلها وحتى عملها المهني. توفيت فقيرة، وكان من الممكن لها أن تعيش حياة هانئة مرفهة لو قالت فقط: “لا، لن أبقى مع الطفلات.”
رتبة الأمانه التي حازت عليها لا تقارَن بتضحيتها بحياتها من أجلنا وأجل أختها. بقيت أمينة لنا حتى الموت.”